موزة عبدالله العبدولي
كتب الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني (1962 - 2012) قبل رحيله بأشهرٍ معدودة مذكراتٍ ممزوجةٍ بنصوص سردية وشعرية تحت عنوان «لذَّة المرض»، وفيها يدوّن معاناتهِ مع مرضه وهواجسه وقلقه في رحلة علاجهِ الأخيرة، وستقف هذه القراءة على قصيدةٍ كان مطلعها «عالمُ جسدكَ عالمان» تتشكل فيها نظرة الشاعر لجسده العليل والضعيف، ورثاؤه الضمنيّ لذاتهِ. يقول:
«عالمُ جسدكَ عالمان،
عالمُكَ المحدودُ،
عالمُ جسمكَ حيثُ جُمجمتكَ التي تُشبه ثَمَرة جوز
هند يابسة،
وعينيكَ المُختبئتين في محجريهما
..
وأنفكَ الوارمُ في منتصفِ وجهكَ
وشفتيكَ المدلوقتين كجرَّتيْن فارغتيْن،
وقليلٌ من الشَعْرِ أو كثير منه
وقد ترمَّد من الأسى
هذا هو رأسُكَ الذي يحمله جُثمانُكَ على الأرض،
الذي تحمله كتفاكَ الهزيلتان،
الواقفون كحراس أبراجٍ غابرة
على قفصكَ الصدريّ،
ذلك القفصُ الذي يشبه «دوباية» قديمة،
برزت عظامها على قلبكَ الضَّعيفِ
ورئتيكَ المهترئتين
وكبدكَ التي توشك على التَّلف.
ثم ماذا يتبقى بعد ذلك؟
المعدة ومجاريها وتلك القدمان النحيفتان
من كثرة ما التهمتهما ظلال الطرقات».
يبدأ الشاعر في وصف جسده وأعضائه بنوعٍ من التهكّم، فهو لا يجابه ضعفه بالنكران بل بالسخرية اللاذعة، انطلاقاً من اعتبار الجسد جثماناً، والأعضاء مهترئةً، والشيب من تبعات الأسى. وتتسم التشبيهات التي يستعملها بمجموعة من التحوّلات، فجمجمة الرأس (جوز الهند اليابس) والشفتان (الجرتان الفارغتان) والرجلان (اللتان التهمتهما الظلال) قد تحولت من حالة الامتلاء إلى الخواء والجفاف والتآكل، إذ تتماشى هذه الصور مع التهاوي الذي يجابهه الجسد، بينما يتأكد معنى الخسارة الضمنيّ في تشبيهه العينين...
ويُبدي الشاعر انزعاجه من طاقم الممرضين والأطباء الأشبه بحرَّاس أبراجٍ غابرةٍ، والذين يقفون أمام قفص الصيد الكبير -قفصه الصدري- متابعين تطور المأساة، وليس بغريبٍ على ابن البحر والسواحل أن يستعيد معجمهِ، فطاقم الأطباء ينظرون إلى قفصه الصدري وأعضائه كما ينظر الصياد إلى (الدوباية) والأسماك المصطادة، وما يجمع بين أعضاء الجسد والأسماك هو احتضارهما. ويتساءل (ثمَّ ماذا يتبقى بعد ذلك؟) كلُّ حالٍ صائر إلى أسوأ، وكلُّ ضعفٍ جسديّ لا فرصة لتحسينه، وكلُّ خطوة إلى الموت يستحيل استرجاعها.
يقول مُكملاً:
«هذا هو جسدُكَ الظاهر،
جسدُكَ الذي تراه مرآة الجدار،
جسدُكَ الفاشل في الهواء،
جسدُكَ الجلدي،
المكسو بجلدكَ المتغضّن،
بمسامات جلدكَ المتكلِّسَة،
جسدُكَ الممدَّدِ على السرير كعيِّنة،
جسدُكَ النابض ككهفٍ مهجور.
تحت هذا الجلد كون لو تدري،
تحت هذا الجلد مجرَّة تجري في هواء الدَّم،
آلة تتحرك من احتراق لحمِ النَّبض».
تتجلّى صورة الازدراء والتخلي عن هذا الجسد المريض والضعيف، فالجسد هزيلٌ كعيّنة، وحيدٌ ومهجورٌ ككهف، متبلّد بجلده السميك والجاف، المسدودة مساماته بهذا التكلّس والركود، وكلها تحيل إلى شدَّة الهزيمةِ أمام صورة العافية المُثلى والمبتغاة. لكن يبدأ بعدها بالانتقال من عالم الجسد المحدود إلى عالم الجسد الواسع -كما ذكر في المطلعِ: عالم جسدك عالمان- فهذا العالم هو العالم الحُلم/ الجسد المُستحيل، فتحت الجلدِ مجرَّات حيوية وآلات لها ديمومتها وأعضاء تتناسق فيما تعمل، يكمل واصفاً عالم جسدهِ الواسع:
«تحت هذا الجلد الطبيعة كلُّها بغاباتها وأنهارها وبحارها وسماواتها ويابستها، وقد وصلتْ إلى المُلخَّص من سيرتها.. فالمستحيل حدث فعلاً، إنَّهُ تحت جلدي.
إنَّني هناك أيضاً في الكون، تماماً كما أنا تحت جلدي. إن موسيقى حركة المجرة تحت جلدي هي نفسها موسيقى حركة المجرات في الكون. إن جسدي ليس قُربة نفخَ فيها أحدهم كي تكون موسيقى فرعيَّة، إنَّ جسدي متى ما تنفَّس بصحةٍ وعافيةٍ وطبيعة فإنَّه يتنفس مع الكون، وكما يتنفس الكون».
في قمة الأسى والعجز ينبثق داخل هذا الجسد المريض كونٌ بأكمله، بمجراتهِ وبحاره وأنهاره، إنَّها الحياة كاملة أو العافية الحُلم حين تتجلّى، فتحت هذا الجلد السميك والجاف يكمن الكون، وهذا منتهى آمال جسدٍ يحتضر. ويؤكد تزامن الجسد مع الكون في حركاته وتنفسهِ، فهذا الكون الخارجي يتزامن مع الكون القابع تحت الجلد، فما الذي أراده بهذا التزامن؟ أكان تشبثاً بالأمل الأخير: القوى الكونية وديمومتها؟ البعث الدائم للطبيعة وأجزائها؟ أم إنُّه رثاء ذاتٍ ضمنيّ لنهايةٍ بانت مشارفها؟ وبعد أن نخرج من هذا الكون الفسيح، نستطيع أن نلحظ كيف انتقلت الصور من أصغر الجزيئات إلى أكبرها، من العضو الجسديّ العليل، إلى قطعة كونية حيّة ووهَّاجة، فهذا التحول الانتقالي لا يُحدثه إلا شدّة التشبّث بالخلاص.