إميل أمين
وصفه البعض بأنه رجل الدين الجنوب أفريقي أسمر البشرة أبيض القلب، فيما اعتبره آخرون الصوت الصارخ الجديد في برية الكفاح الإنساني ضد الظلم، والصادح بالحق والحقيقة، مهما كانت الصعوبات والعقبات، وبغض النظر عن جنس أو عرق أو دين أو مذهب لمن مضى في طريق دعمهم مرة وحتى النهاية.
كان توتو يحمل النقاء الإنساني في روحه، العالم بلا تفرقة، وعرف مآسي التفرقة العنصرية مبكراً، ولهذا فإنه منذ أن انضم إلى سلك رجال الكنيسة الأنجليكانية في العام 1953، قد اختط لنفسه خطاً واضحاً بدأ من عمق بلاده، حيث رأى الاضطهاد القائم على التفرقة العنصرية «الأبارتيد»، في أسوأ صوره.
منذ ذلك العام وحتى سنة 1968 التي أصبح فيها رئيساً لأساقفة كيب تاون، عاش توتو مراحل الكفاح العقلي والروحي، الإيماني والوجداني مع شعب جنوب أفريقيا، وبلغ ذروة كفاحه العام 1988 حين أعلن رفضه المطلق لاعتبار الرجل الأسود: «كخرقة بالية تمسح بها الحكومة أحذيتها».
اعتبر الجنوب أفريقيون أن توتو يستحق أن يتبوأ أكبر منصب روحي في البلاد، ولهذا تم اختياره أول عميد أسود للكنيسة الأنجليكانية في مدينة جوهانسبرج، قبل أن ينتقل في سبعينيات القرن الماضي إلى لندن، ليضحى سكرتيراً عاماً لمجلس كنائس أفريقيا الجنوبية.
في نعيها له كتبت الملكة إليزابيث، ملكة بريطانيا تقول: «أستذكر بحنين لقاءاتنا وما اتصف به من ود كبير وروح مرحة»، فقد عاش توتو في بريطانيا سنوات طوال حمل فيها قضية بلاده، مدافعاً عن الحق الإنساني، وعن المساواة في الحقوق والواجبات، عمل حازماً دون عنف، وقوياً دون تخريب.
رفع توتو راية المستضعفين في الأرض، ودعا إلى العمل الدائم من أجل السجناء والمقهورين والمعزولين والمحتقرين، ولهذا كان من الطبيعي أن يتم اتهامه بفرية الانتماء إلى الشيوعية والدعاية لها، لكن ذلك لم يفت في عضد الرجل المبشر المساكين بالروح.
يمكن القول إن توتو سخر المفهوم الديني التنويري، لا الظلامي، لخدمة الشعوب المقهورة في أفريقيا وخارجها دفعة واحدة، ولم يجعل من الدين ستراً يحتمي فيه المارقون والمفتئتون على الحق الطبيعي لكل إنسان على وجه الأرض.
من أشهر وأمهر العبارات التي أطلقها توتو في رحلته النضالية قوله ذات مرة: «لا البيولوجيا ولا لون البشرة هما اللذان يحددان قيمة الإنسان، بل إن ما يحدد القيمة هو كون الإنسان أبدع وأكمل مخلوقات الله»، وفي عبارة ثانية يقول: «إن الله لا ينتظر أن يصبح الإنسان صالحاً وهو لا يحبنا لأننا صالحون، بل نحن صالحون لأنه يحبنا».
ترك توتو بصمة واضحة في جنوب أفريقيا، فقد كانت رحلته النضالية حول العالم، سبباً رئيسياً في الإفراج عن الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، والذي طلب منه في العام 1995 أن يترأس اللجنة التي أطلق عليها «الحقيقة والمصالحة» والتي كانت مهمتها جمع الأدلة الخاصة بالجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في زمن التفرقة العنصرية في بلاده.
الدعوة إلى التواضع
من بين أهم القضايا التي شغلت تفكير توتو زماناً طويلاً، قضية استعلاء الرجل الأبيض على بقية شعوب العالم، وفي حوار أجرته معه صحيفة لوس أنجلوس تايمز أوائل الألفية، دعا الرجل ذو الثوب الكهنوتي الولايات المتحدة وأوربا إلى إظهار مزيد من التواضع، مذكراً بأنه لا يحق لهم إعطاء دروس للقارة الإفريقية في الديمقراطية ومكافحة الفساد، بل إنه إذا أراد قادة وحكماء تلك الدول لعب دور حقيقي في القارة السمراء، فإن ذلك ينبغي أن تجري به المقادير من خلال التنمية الحقيقية لا الظاهرية الكلامية.
ولعله كان من أوائل الأشخاص الذين نبهوا إلى العلاقة غير السوية واللامتزنة بين أطراف العالم، لا سيما ما بين عالم من الأغنياء، وآخر من الفقراء، فقد خلص إلى أن التفاوت على هذا النحو لا يمكن أن ينشئ جيوباً من الازدهار، بل يخرج للعالم مزيداً من الفقر والحرمان، معه ينتفي الأمل في عالم آمن أو مستقر.
دافع توتو عن كرمة الأديان، وكل الأديان، فعندما شبه أحد الفاشيين الهولنديين الجدد القرآن الكريم بكتاب كفاحي لأدولف هتلر، انبرى توتو متصدياً بالقول: «أنه أمر مثير للاشمئزاز ويكشف عن جهل مطبق بالإسلام»، وأضاف: «إن تشويه النائب ويلدرز لقيم الإسلام الأساسية لا يسيء إلى المسلمين فحسب، وإنما لنا نحن المسيحيين، إذ نشعر بأننا متضررون من هذا الفيلم لأنه يهاجم الإسلام كدين، الأمر الذي يؤذي من يشتركون في المبادئ العالمية لجميع الديانات، وهي احترام الآخرين، وبث روح الخير، وتعزيز حياة التضامن الإنساني.
كان لتوتو نظرة كوسمولوجية تتجاوز ضيق الإيديولوجيات، وأحادية الدوجمائيات، فعلى سبيل المثال لا الحصر لم يترك الرجل إشكالية الأزمة المالية العالمية التي ضربت الولايات المتحدة عام 2008 ومنها إلى بقية الجيوب والدروب تمضي من غير أن يتوقف أمامها، مشيراً إلى أن فكرة «حرية الأسواق» قد أخفقت، ونادى بإعادة النظر في أصول الرأسمالية وضمان حياة الأمم والشعوب الفقيرة والواقعة تحت نير العبودية المالية للغرب تحديداً.
رحل توتو عن عالمنا، لكن نجمه يضيء ولن يخبو، بما تركه من مثال صالح لرجل بشر المساكين بالسلام الروحي، وبالأخوة الإنسانية، والعدالة والحرية.