السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«اسم الوردة».. مرايا موهوبة للوهم

«اسم الوردة».. مرايا موهوبة للوهم
30 ديسمبر 2021 00:59

بقلم: جان كلود أبراسّار
ترجمة: أحمد حميدة

في البدء كان اللّيل: عدمٌ عاصفٌ يقذف بكائنات ونباتات ودماء.. هكذا نشأ لون الورود، ثمّ الحروف الصّائتة.. لم يكن للوردة من اسم، وأحدٌ ما يدعى جان كان قد عثر عليه: «في البدء كانت الكلمة!».
تلك هي الجملة الأولى التي تطالعنا في كتاب «اسم الوردة» لأمبيرتو إيكو، وهي أيضا اللّغز الأوّل لهذه «الرّواية» البوليسيّة الميتافيزيقيّة، فهل كان هذا العمل حقّاً رواية بوليسيّة؟ 
بالطّبع لا..! ولكنّها بالتّأكيد مخطوط عتيق ينطوي على تمويه مربك، ذلك أنّ أمبيرتو إيكو أخبرنا بأنّه عثر على ذلك المخطوط عام 1968، الذي كان فيه أدسو دي مالك هو المذنب الوحيد، وهو الذي أتلف إبهامه في المكتبة المثلّجة بدير للرّهبان في القرن الرّابع عشر، لينقل لنا بعد ذلك أخبار الوردة الذّابلة والدّير الذي التهمته النّيران والعدم الصّاخب والّلقاءه المهيب بالحياة. 
إنّما شيرلوك هومس: كان اسمه في القرن الرّابع عشر غيوم دي بسكرفيل، والذي كان قسّيساً يسوعيّاً ممثّلاً للإمبراطور لدى البابا، وكانت الإمبراطوريّة المقّدّسة يومذاك في ألمانيا (حيث سيكتب أدْسو هو ذاته ذلك المخطوط)، فيما كان البابا في مدينة أفنيون، ولم يكن البابا جون الثّاني والعشرين بالشّخصيّة المطمئنة التي يسهل الاستئناس منها، إذ عرف عنه أنّه كان مجرماً سفّاحاً يقتل بلا تمييز، فيكون غيوم هكذا قد تخيّر أرضاً محايدة كيما يلتقي فيها بمندوبي الباباويّة في ديرٍ بينيدكتي ٍبشمال إيطاليا، حيث كان يروق لرئيس الدّير توشيح نفسه بلقب «أبّون» (القدّيس الكاثوليكي). 
وكانت رواية «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو، قد تحولت إلى فيلم دراما غامض وتاريخي مشترك بين إيطاليا، وألمانيا الغربية، وفرنسا، عام 1986 من إخراج جان جاك أنود، استنادًا إلى رواية تحمل نفس الاسم، ولعب فيه شون كونري دور الراهب الفرنسيسكاني ويليام باسكرفيل، الذي يعمل لحل لغز مميت في دير من العصور الوسطى.

أسرار مرعبة
وكان هذا الدّير أشبه بخزّان تنطوي بداخله ذكريات الماضي: كان مركزه أو قلبه عبارة عن مكتبة - متاهة، تنطمر في أحشائها كلّ أسرار العالم المسيحي في العصور القديمة، بما في ذلك أسرار الصّابئين وأخبارهم، وكانت عيون النسّاخ بمكتبة ذلك الدّير تبلى من فرط مراجعة ونسخ المخطوطات الإغريقيّة واللاّتينيّة والعربيّة التي كانت تحتوي عليها تلك المكتبة، بل إنّ هؤلاء النسّاخين كانوا في الحقيقة يكتبون دون رؤية ما كانوا يخطّون، لأنّ المكتبة كانت مصفّدة بالممنوعات: فالقدّيس الكاثوليكي والقسّ مالاشِي وبعض المختارين، هم فحسب من كان بوسعهم زيارة ذلك المكان المخيف المحفوف بالأسرار المرعبة.. وإن جازف بعضهم، ولم تكفِ أوامر «أبّون» في إحباط حماس الفضوليّين منهم، فإنّ السرّ الرّهيب الذي كان يخيّم على المكتبة، كان سيجمّد أوصال كلّ متجاسر يكون قد فكّر في الكشف عن تلك الأسرار المختومة بختم الغموض والالتباس.
وفي اللّيل، كانت داخل المكتبة أحداث غريبة بالفعل، إذ كانت تنبعث من داخلها روائح جحيميّة تذكّرنا بروائح الكبريت، وعبر نوافذها كان بالإمكان رؤية الضّياء البائس الذي كانت تلقي بها هنا وهناك.. الشّياطين. ولا شكّ قي أنّ قساوسة القرن الرّابع عشر كانوا لا يعتقدون في وجود مثل أولئك الشّياطين، كما «الوردة» التي تمّ تغييب اسمها من مجمع مسكونيّ إلى آخر ومن محرقة إلى أخرى.
فما الذي كان يجتذب هؤلاء إلى تلك المكتبة؟، لن نكتشف ذلك بالطّبع إلاّ في نهاية الرّواية، ولكنّنا نكون في المقابل قد عرفنا منذ بدايتها أنّ جميع من أمّوها لقوا حتفهم فيها بصورة شنيعة، ففي كلّ يوم وفاة جديدة، رغم يقظة غيوم الذي كان على غرار شيرلوك هولمس.. موهوباً، وبمنطق صِرف، وانطلاقاً من بعض التفاصيل، كان ينتهي إلى الاستنتاجات التي يريد.. وكان هذا التّلميذ، الذي كان يبدو وكأنّه مريد من مريدي روجيه بيكون صاحب النزعة الإنسانيّة الرّفيعة، يتميّز بفكر نيّر طليق ومقبلاً ببالغ الشّغف على فكّ الأسرار الملغزة: لقد كان متعلّقاً حدّ التّقديس بالعقل وبالمنطق الصّارم، الحجاجيّ والاستدلاليّ.. «إنّها الخلايا الرّماديّة الصّغيرة.. صديقي واتسون!»، واسم واتسون هنا هو أدسو، ولكن رغم الفطنة البالغة لغيوم، ظلّ التّحقيق يتعثّر.. «ليست الأشياء بمثل هذه البساطة عزيزي أدسو!، لأنّ أولئك القساوسة كانوا زناة ولوّاطون ولصوصا وقتلة.. بالقدر الذي يفوق كلّ تصوّر، حتّى في تلك الأماكن المقدّسة، ثمّ لأنّه كان بإمكان أيّاً منهم رمي الجميع بالزّندقة أو بالحرم، وماذا عن البابا؟ لقد كان بغيّاً. وماذا عن الإمبراطور؟، لقد كان زنديقاً.. وماذا عن فرنسا؟، يقول عنها أدسو «لقد كان أهالي تلك الأرض.. فاسدون»..

أبعاد كونيّة
على مدرج الكتب المسمومة المودعة في مكتبة الدّير تقترف الكنيسة باسم الدّين أفظع الجرائم، ثمّ نجد بالإضافة إلى ذلك المحارق، القساوسة الجلاّدين، وتلك المواكب من المعذّبين الذين أسرفت الكنيسة في سفك دمائهم، ومَثَلُ هؤلاء، دولتشينو، الذي اقتيد عبر شوارع المدينة، وفي زاوية كلّ طريق كان جسده يقطّع بكلاليب محمرّة حدّ البياض». لقد بُتر أنفه وانتزعت منه سوءته، قبل أن يتمّ «إكرامه» بإلقاء جثّته في نيران المحطبة، فهل هذه هي الكنيسة إذن؟ جلاّدون سفسطائيّون يدّعون بأنّ المسيح عاش عيشة رغيدة وفي أجواء رخيّة، وأنّه ينبغي لنا أن نُرجِع لسيزار ما كان للبابا. أي نعم! لا تعيش الورود إلاّ للحظة منخطفة، ولكن لمفتّشي الكنيسة حجج لكأنّها المشانق. أمّا الحقيقة، فينبغي أن تظلّ دوماً مخفيّة، لذا، لن توجد المكتبة لإخفاء المعرفة فحسب، وإنّما لكتمانها وقبرها تماماً، وعوض أن تشعّ المكتبات بضياء المعرفة، لن نرى غير وهج المحارق والغبار المتطاير للكتب التي التهمتها النّيران.
ومع ذلك، فإن رواية «اسم الوردة» ليست مجرّد شجب للكنيسة، وإنّما استفظاع للغرب برمّته الذي نجده في ثنايا الأحداث موضوعاً على محكّ السّؤال، بل إنّه الإيمان نفسه هو الذي بات يُسائل، كما السّلطة السّياسيّة التي تآكلت مفاصلها وتفكّكت ميكانيزماتها.. لذا، لن يكون كتاب «اسم الوردة» مجرّد رواية بوليسيّة، وإن كانت الأحداث فيها تدور على نسق لاهث، وأنّ الحبكة الرّوائيّة فيها تتخلّلها أحداث متوثّبة دونما توقّف، ليكون الجميع فيها محلّ اتّهام ومحاكمة وإبادة..
و«اسم الوردة» هي أيضا رواية ذات أبعاد كونيّة، نلج فيها اللّيل الطّويل للبشر، حيث تنتصب كوابيس بحجم الكاتدرائيّات، أديرة بحجم القلاع ومكتبات بحجم السّجون. ولكنّ الكون مديدٌ، ونجد فيه أيضاً الحركات البسيطة التي منها يحاك اليوميّ: الأرض التي تحرث، الصّلاة، جمع العنب والعشاء اللّيليّ، بل وحتّى بعض اللّحظات السّعيدة: عجن الخبز وتحضير صغير الحمام المحشيّ والأرنب المشويّ.. وثمّة خاصّة العقل، المعرفة والكتب والكلمات. فماذا عساها تكون كلماتنا ومدننا وقصورنا في غمرة تلك الأحداث الكابوسيّة؟ مرايا موهوبة للوهم: يتأمّل فيها الإنسان ذاته، فيعتقد أنّه ذا شأن، أو أنّه محض لغز أو قدر.. فورا، يفكّك الإنسان وهو مذهول ذلك الرّمز ويحدّق في القدر، فينتهي به ذلك إلى تأويلات ومعارف روحيّة، إلى تفاسير وتعاليق، وإلى ترميز بلاغيّ وشعريّ، غير أنّ كلّ تلك الكتب لا تكشف شيئاً، لأنّه لم يكن ثمّة أبداً من سرّ أو لغز، ويعني ذلك بالنّهاية أنّ الكتب تساعد على إخفاء تلك البديهة التي لا تحتمل، من الإنسان هو لاشيء، وأنّ الكون في جوهره محض خواء، كما يشي بأنّه ليس ثمّة من وردة ولا وجود أبدا لبستان.
لهذه الأسباب، فإن الكون المرآوي لأمبيرتو إيكو، يكون مركزه هي تلك المكتبة-القلعة، وسطوة الممنوعات هي التي تولّد اللّغز، واللّغز هو الأمل الوحيد للبشر: فإمّا أن يكون الوجود ملغّزاً وإمّا أن يكون عبثاً، وطالما أنّ العبث مردود، فإنّ المرآة تتعمّق وتستحيل قلعة: فما هو ممنوع يولّد اللّغز، واللّغز هو الذي يولّد الأمل.

وجهة غامضة
وماذا عن العقل؟، إنّ غيوم الذي طالع الكثير من الكتب وعشق المعرفة، وتشبّث بالحقيقة بكلّ ما تكتسيه من مهابة، كان يجفل من العبث.. لقد آثر الاعتقاد في أنّ كلّ تلك الكتب التي تحرق تنطوي على السرّ العميق للأشياء، ومن قد يؤاخذه على ذلك؟ إنّه على كلٍّ ليس أمبيرتو إيكّو، وإن حرص هذا الأخير قبل ذلك على تبرئة نفسه: إنّه لم يكتب كتاباً إضافيّاً، وإنّما عثر على مخطوط كان في حدّ ذاته لغزاً.
وكان البرد في الأثناء يكتسح مكتبة النسّاخ، فيما كان المساء يأذن بالحلول، لقد غدا أدسو مرهقاً، أمّا غيوم فقد توفّي منذ أمد بعيد، فيما استحالت المكتبة إلى أكوام من رماد، وغدت ذاكرة القسّيس البائس تميل إلى التبدّد، وكان أدسو ينظر من النّافذة ولسان حاله يقول: «أحيانا ما يبدو لي نهر الدّانوب محتشداً بسفن مشحونة بمجانين يقصدون وجهة غامضة»، وينبغي لنا أن ننتهي كما أدسو إلى الخلاصة التّالية: في البدء كان اللّيل، ولم يكن ثمّة من ورود، وإنّما فحسب ذلك التّاج من الأشواك على جبين المصلوب، غير أنّ المسيح غدا إمبراطور روما، وعلى امتداد قرون لن يتمّ التوقّف عن قتل البشر، باسمه طبعاً.. باسم الوردة..!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©