د. عزالدين عناية
برحيل المستشرق فرانشيسكو غابريالي (1904-1996) طَوت الدراسات العربية في إيطاليا مرحلة مهمّة من تاريخها، ودخلت طوراً جديداً صار يُعرَف بـ «الاستعراب» (L›arabismo)، طرأت عليه مستجدّات ودبّ فيه نوع من التفرّع. لماذا شكّل الرجل مرحلة فاصلة رغم أن السابقِين واللاحِقين في مجاليْ الاستشراق والاستعراب كثيرون؟ أوّلاً لانهماكه الجاد في تطوير الدراسات العربية بحثاً وتدريساً وترجمةً؛ وثانياً لطبعه الأجيال اللاحقة بمنهج التعاطي العلمي والتخصّصي مع الدراسات العربية. ففي مرحلة مبكرة كان الإتيان بفرانشيسكو غابريالي لتولي مهام «معهد الشرق» في روما (IPO)، الذي أسّسه المستشرق كارلو ألفونسو نللينو سنة 1921، والذي مثّل أهم بؤرة لدراسة الحضارة العربية في إيطاليا، بغرض تطهير المعهد من النظرة الفاشية للشرق والعبور به نحو رؤية جديدة تجاري أوضاع إيطاليا ما بعد الفاشية. لكن غابريالي لم ينحصر عمله بتولي مقاليد المؤسسة المعنية بالشرق والعالم العربي، بل أشرف أيضاً على كرسي اللغة العربية وآدابها في جامعة روما «لاسابيينسا»، كبرى جامعات أوروبا بعدد يفوق مئة ألف طالب في الوقت الحالي. ولِثقل الدور المنوط بغابريالي مثّلَ الرجل مرجعية للعديد من الدارسين ممن تتلمذوا على يديه وتشرّبوا منهجه في دراسة الحضارة العربية، وكذلك لوفرة الأعمال التي أنجزها حتى باتت من المرجعيات الكلاسيكية في إيطاليا. نذكر من بينها «تاريخ الأدب العربي» (1951)، «الإسلام في التاريخ.. دراسات في التاريخ» (1966)، «محمد والفتوحات العربية الكبرى» (1967).
فمنذ العشرية الأخيرة من الألفية الثانية، بدأ يدبّ في ساحة الاستشراق الإيطالي حراك ستتّضح ملامحه وسيرسو عند الاهتمام بـ«العربية» وآدابها، وهو ما سيُعرَف لاحقاً بالاستعراب. توزّعت الانشغالات فيه على ثلاثة محاور رئيسة: تدريس «العربية»، وتقديم الأدب العربي بوجهيه القديم والحديث، وترجمة الأعمال الأدبية. وشكّل تدريس «العربية» وآدابها محور نشاط عدد من الجامعات الإيطالية، مثل «الأورِيِنتالي» في نابولي، وجامعة روما «لاسابيِينسا»، وجامعة البندقية، وجامعة باليرمو، أبرز المؤسسات الجامعية في إيطاليا وأعرقها. ليغدو تدريس «العربية» وآدابها، في الوقت الحالي، شائعاً في العديد من الجامعات في شمال إيطاليا وجنوبها.
ذاع صيت أسماء إيطالية في مجال الترجمة من «العربية» لارتباطها أساساً بترجمة الأعمال الأدبية. نذكر على سبيل المثال عَلَمين بارزين: إيزابيلا كاميرا دافليتو وفرانشيسكا كورّاو، لريادتهما في المجال ولنشاطهما الحثيث في الترويج للأدب العربي، إذ شغفت الأولى بترجمة الأعمال الروائية واهتمت الثانية بترجمة الشعر. تقاسم الثنائي الساحة الإيطالية ولم يخل عملهما من التنافس والتدافع، وكوّنت كل منهما فريقاً من الأتباع والمريدين صبّ في مصلحة ترويج الأدب العربي واللغة العربية. واستطاعت كلتاهما تقديم سلسلة من الروائيين والشعراء العرب للقارئ الإيطالي، تسنّى بمقتضاه إخراج الدراسات العربية من حيز الجامعات الضيق إلى الساحة الثقافية الرحبة. وهي رحلة شاقة وممتعة كما روت لي كاميرا دافليتو وكورّاو بعضاً من فصولها، أخرجت المنتوج العربي من العتمة إلى النور، حتى باتت أسماء عربية مثل غسان كنفاني، وإميل حبيبي، وصنع الله إبراهيم، ورشيد ضيف، ونجيب محفوظ، ولطيفة الزيات، وعبدالرحمان منيف، وإبراهيم الكوني، والطيب صالح، وأبوالقاسم الشابي، والسياب، ودرويش، والمقالحي، وأدونيس متداوَلة على ألسنة الطلاب والمثقفين الإيطاليين.
اليوم أضحى المعنيون بالترجمة من «العربية» كثيرين. فقد شهدت العشريتان الأخيرتان ظهور لفيف من المترجمين استطاع كسب ثقة دُور النشر وحاز شيئاً من القبول لدى القارئ الإيطالي. نورد على سبيل الذكر أسماء فرانشيسكو ليجو ووسيم دهمش وماريا أفينو ومونيكا روكّو وديانا إِلفيرا وباولا فيفياني وبربارا تيريزي. صحيح يبذل المترجمون جهوداً مقدَّرة في الترجمة من «العربية»، غير أنّ التخيلية المركزية للثقافة العربية المتأتية من حقبة الاستشراق الكلاسيكي لا تزال تَحول دون الاهتمام الكافي بالأدب الخليجي أو الأدب المغاربي مثلاً. بالإضافة إلى أن التحولات الجارية في الساحة الثقافية العربية لا تجاريها مواكَبة حثيثة من المترجم الإيطالي، وهو ما يجعل كثيراً من الترجمات تأتي نتيجة العلاقات الشخصية أو التوصيات، وقد لا تعبّر عن واقع الحركة الأدبية العربية.
لقد مثّل خطّ الاستعراب، المتمحور حول دراسة الأدب العربي المعاصر وتدريس «العربية»، عنصر تحوّل إيجابياً. وتركّزَ الاهتمام على نقل الأعمال الإبداعية، وتدريس القضايا التي تمور بها الساحة الثقافية العربية، بغرض تقديم صورة راهنة عن العالم العربي. لكن تبيّن أن ملاحَقة الإنتاجات الأدبية وحدها لا تكفي، وهو ما حثّ على توسيع نطاق الاشتغال بالثقافة العربية فكان أن ظهرت في الساحة اهتمامات بالمقاربات السوسيولوجية والتاريخية والدينية والإنثروبولوجية والسياسية، بغرض بناء وعي شامل بالوقائع العربية الجديدة، بعيداً عمّا تُروّجه الدعاية، وكان من أبرز المشتغلين فيها الراحل ماسيمو كامبانيني وإنزو باتشي وإيدا زيليو غراندي وأوغو فابييتي وستيفانو آليافي ولاورا غواتزوني.
في خضمّ تلك المنجزات المقدَّرة، ثمة جانب مهمّ في ترويج العربية وتيسيرها للمتعلم الإيطالي، بقي بعيداً عن الضوء. وهو دور تولّته المؤسسة الجامعية الإيطالية في أقسام اللغة العربية وآدابها داخل الكليات. فقد انكبّ جمع من الأكاديميين على قضايا بنية العربية، وعلى مناهجها التعلّمية بطرق عصرية، وعلى الجانب الألسني والتاريخي للغة الضاد. ونظراً لطابع الاشتغال التقني، فقد ظلّت تلك الأعمال حبيسة الوسط الأكاديمي. وقد توزعت على مجالين بالأساس: الجانب المعجمي والجانب النحوي للغة، في المستوى الأول تعود الحركة المعجمية بين العربية والإيطالية إلى قرون سالفة، ويُعدُّ القاموس الإيطالي العربي «فابريكا مانيا» (1636م)، وهو من إعداد دومينيكو جرمانو الأقدم. شهدت الحركة تطورات حتى بلغنا في الحقبة المعاصرة قاموس ريناتو ترايني العربي الإيطالي، الصادر سنة 1966، والأكثر اعتماداً بين الدارسين والمترجمين في إيطاليا. يكشف القاموس عن دراية معمّقة لصاحبه بالصناعة المعجمية، وهو شبيه بموسوعة لغوية (1763 ص). وفي مسعى لتحيين هذا القاموس العمدة وتجديده جرى اختصاره في مجلد واحد، وتبقى الحاجة ملحة اليوم إلى تحويله إلى قاموس إلكتروني.
يروج في الأوساط الجامعية كذلك «قاموس اللغة العربية» لإيروس بلديسيرا، أستاذ اللغة العربية في جامعة كافوسكاري في البندقية. وهو قاموس يحاول أن يلبي حاجة الطلاب الناطقين بـ«الإيطالية» والساعين إلى تعلّم العربية. فبموجب نشاط بلْديسيرا التدريسي كان الهاجس الرئيس لديه هو تقديم قاموس يستجيب لحاجة الدارس إلى المصطلحات والمفردات المعاصرة. التجربة الناجحة لبلديسيرا دفعته إلى توليد قاموسين آخرين، «العربي الوجيز» و«العربي الصغير»، من القاموس الأصلي استهدف بهما شرائح مبتدئة في تعلّم العربية.
لكن تعليم «العربية» وتعلّمها قام أيضاً على عاتق دارسين وباحثين في المجال اللغوي، منهم الأستاذ القدير فرانشيسكو ليجو خبير اللهجات المغاربية، والأستاذ أوليفييه دوران الحريص على الاهتمام باللهجات كرافد من روافد «العربية»، وكذلك الأستاذة مونيكا روكو التي انشغلت بالقضايا التعلّمية لـ«العربية»، وبالمثل أيضاً الأستاذة ماريا أفينو التي قدّمت عملاً مميزاً في مجلدين لتيسير تعلّم «العربية» عبر تجديد كِتاب لاورا فيتشا فالياري في النحو العربي.
أضحى الإيطالي يطالع إبداعات عربية راهنة مترجَمة إلى لغته، مثل «موت صغير» لمحمد حسن علوان، و«الطلياني» لشكري المبخوت، و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» لخالد خليفة وأخرى، بعد أن تعزّزت المواكَبة بفضل الصدى الحسن للجوائز العربية. وقد كانت حركة الترجمة في ما مضى بطيئة للغاية، حيث لم يُترجَم من عام 1900 وإلى غاية عام 1988 سوى 27 عملاً روائياً عربياً إلى «الإيطالية».