الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عبد الرزّاق جرنه.. من «زنجبار» إلى «نوبل»

عبد الرزّاق جرنه
14 أكتوبر 2021 01:08

بقلم: عبد الرّحمان وابري
ترجمة: أحمد حميدة

إنّ الرّوائيّ التّنزانيّ، عبد الرزاق جرنه، الذي بلغ سنّ الرّابعة والسّبعين، وحاز يوم الخميس 7 أكتوبر 2021 جائزة نوبل للآداب، هو الأفريقيّ الخامس الذي يحظى بهذه الجائزة الرّفيعة بعد وول سويلكا ونجيب محفوظ ونادين جورديمر وكوتزي، وجاء هذا التّكريم ليكون اعترافاً بصرامة معالجاته لتداعيات الاستعمار ولمآل المهاجرين، الذين كابدوا ويلات الاستعباد والضّياع والتقطّع بين الثّقافات والقارّات، وكان بالمملكة المتّحدة، وهو المولود بزنجبار عام 1948، قد تناول في رواياته المتتابعة، مدى تأثير الاستعمار والهجرة في أولئك الذين أُكرهوا قسراً على الهجرة ومغادرة أوطانهم، كاشفاً عن دور ذلك الاستعمار في انكسارهم وتشظّي هويّاتهم، وقد تكبّد هو ذاته ويلات النّفي، وكان من منفاه يخاطب الأوروبّيين ويدعوهم إلى النّظر إلى المهاجرين الوافدين من أفريقيا على أنّهم قد شكّلوا ثروة حقيقيّة، وأنّهم لم يتوافدوا على البلدان الأوروبيّة بأيادٍ خاوية.. «كان الكثيرون ممّن هاجروا قد دفعتهم الضّرورة الملحّة إلى التغرّب، وكان لديهم ما يمنحونه للبلدان الأوروبيّة؛ لذلك كان على الأوروبييّن أن يغيّروا من نظرتهم تجاه أولئك النّاس الماهرين وما كانوا يدّخرونه من طاقة وقدرة على الخلق والإنتاج».

إحساس بالقلق
في مقال للصّحيفة البريطانيّة «ذا غوارديان»، المنشور عام 2004، أوضح جرنه أنّه شرع في الكتابة بعد استقراره بإنجلترا، حين بلغ سنّ 21، وبأنّه حين أقبل على الكتابة الأدبيّة، لم يكن ليعلم أين ستقوده تلك المغامرة.. وقال «لقد شرعت في الكتابة بشكل عرضيّ، وكان يساورني حينها إحساس بالقلق، لم أكن لأعتمد أيّ تخطيط في الكتابة، ولكنّني كنت متلهّفاً لكتابة المزيد ثمّ المزيد، يحدوني دوماً الحرص على أن أكون أقرب إلى الحقيقة».
لقد تناولت رواياته الثّلاث الأولى، «ذكرى الرّحيل 1987»، و«بيليغريمز واي 1988»، و«دوتّي 1990» تجربة المهاجرين في المجتمع البريطانيّ المعاصر، أمّا روايته الرّابعة «الفردوس -1994»، فقد ترجمت إلى الفرنسيّة في دار النّشر «دينوال» عام 1997، وتدور أحداثها في أفريقيا الشّرقيّة أثناء الحرب العالميّة الأولى. فيما كانت رواية «الصّمت المهيب»، تروي قصّة شابّ غادر زنجبار وهاجر إلى إنجلترا حيث تزوّج وأصبح مدرّساً، وكانت عودته إلى بلده بعد عشرين سنة قد أربكته وغيّرت بشكل عميق علاقته بنفسه وبزوجته.

موسومة بالحزن
في سبعة كتب، كان الهاجس الثّابت لعبد الرزّاق جرنه، هو الخوض في مسألة الهويّة الأفريقيّة وما طالها في ظلّ الاحتلال والعبوديّة من تعنيف وتشويه، كما عمل على تحميل شخصيّاته الوضعيات القسريّة للهجرة وما خلّفته في أجسادهم وأرواحهم من آثار عميقة وبليغة، حتّى أنّنا، ونحن نتابع تلك الأحداث المريرة، نكاد ننصت إلى آهات أولئك المعذّبين في الأرض وإلى زفراتهم، لذلك، جاء السّرد في تلك الرّوايات، موجعاً، مترعاً بالحزن والأسى، وموسوماً بمشاعر التّلهّف والتفجّع.

بين النّفي والمحبّة
لم يعد ثمّة جمع كبير من النّاس في الجانب الآخر من المانش لترجمة الرّوايات المسهبة والثّاقبة للأديب جرنه، المنخرطة بصورة مكثّفة في التّاريخ الإمبراطوري المتقاسم بين مبدعي الشّمال والجنوب، متشبّثين بالرّبح السّريع الذي غدا مهدًّدا بإعادة هيكلة قطاع النّشر، فإنّ عالم النّشر بات، وإلى حدّ بعيد، يؤثر الرّوايات القصيرة عن إنجلترا، أي تلك الرّوايات الهجينة التي تنتشر اليوم في بريكستون أو في «إيست لاند»، الحيّ الهنديّ الشّهير بلندن؛ لذا، فإنّ كُتّاباً قديرين كثر، ممّن ينشرون أعمالهم في المملكة المتّحدة، من أمثال زوي كومب وجمال محجوب أو عبد الرزّاق جرنه، كان مآلهم التّجاهل، وهو ما لم يكن معتاداً في عقود سابقة.
فمنذ صدور رواية «فردوس» التي تمّ اختيارها عام 1994 من قبل أعضاء لجنة «بوكر برايز»، كانت اللّوحات المتوهّجة لجرنه، قد صدرت بـ«الفرنسيّة» بفضل الجهود الشاقّة لدور نشر باريسيّة صغيرة، مثل «جلعاد»، وقد تعلّق الأمر في رواية «وداعا زنجبار» مرّة أخرى بمواضيع متّصلة بالحبّ والخيانة والانتقام وبالذّاكرة القلقة، وجاءت تلك الرّوايات لترجّ العالم المعاصر وحدوده المتقلّبة ومخاوفه المرعبة.

سرد مدهش
منذ الصّفحات الأولى للكتاب يحُشر القارئ في خضمّ قصّة رومانسيّة عتيقة بين مارتين بيرس، المغامر البريطاني، وريحانّا، الفتاة الزّنجباريّة الرّائعة الجمال:
«لقد قبّلته باستمتاع متشنّج حين كان ينتظر أن يراها تنفجر ضحكاً، من محيّاها كان ينبعث حشد من التّفاصيل، بريق عينيها، شكل فمها وتلك الابتسامة التي سبّبت لها ألماً ممضّاً، كلّ شيء كان يبدو على قيد الفناء، وأحياناً في اللّحظة ذاتها كان الزّمن يتمدد لحين، ثمّ يتوارى، ليلتحق بموكب الذّكريات، كان يدرك أنّ تلك اللّحظات لن تموت أبداً طالما احتفظ بالذّكرى- طعم شفاهها لأوّل مرّة، يدها المتشبّثة بعنقه...».

وكان معلوماً أنّ ذلك الحبّ لن يتجاوز ذلك العصر، فلئن وقع الإنجليزيّ في حبّ جنونيّ لشقيقة ضيفه، فإنّ مارتن بيرس سوف ينتهي إلى هجران عشيقته الأصليّة، التي كانت تحمل في بطنها ابنتهما «جميلة»، ليخلّف وراءه سرباً من الإشّاعات، ويعثر من جديد على ضباب إنجلترا.. مسقط رأسه، وكان على جرنه سرد تلك الحكاية الشّيطانيّة بريشة من حرير، وأن يتوقّف عند تداعيات قصّة الحبّ الجسديّ ذاك في المجتمع الاستعماريّ لذلك الزّمن.
ريشة حريريّة وسرد محكم، كما يومئ إلى ذلك تراكب الأصوات المحليّة والأجنبيّة، المنبثقة من الحاضر، أو تلك المنبجسة من ماض عتيق مرّت عليه خمسة عقود، وأنّى لنا أن نغادر سالمين شطآن الطّفولة..!
متجذّرة في التّاريخ الاستعماري للشّرق الأفريقي، عامرة بالأساطير السواحليّة، موشّحة بلغة مدهشة وساحرة، فإنّ قصص جرنه تحدو بنا بين المحكيّ التّلقينيّ، استقصاء أوجاع النّفي، الاستبطان الذّاتي والتأمّل في القدر البشري. وبالنّهاية، فإنّ الظّاهر والباطن في هذا المحكيّ لا ينفصلان، بل أحياناً ما يمتزج نداء النّفي فيها بالهموم السّياسيّة، التي تكون على درجة عالية من الحميميّة، فعلى غرار الرّوايات الرّوسيّة للقرن التّاسع عشر، أو أكثر قرباً منّا، روايات الألمانيّ سيبالد، فإنّ جرنه، أستاذ الأدب في جامعة «كينت»، يمنحنا أعمالاً أدبيّة حزينة، لا تخلو من خيبات الأمل ولكنّها مرمّزة بصورة رائعة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©