أسماء جزائري
تقول غلوريا ماري ستاينم: لقد أصبحنا الرّجال الذين نُريد أن نتزوّجهم! والأمر المركب الذي تحملهُ هذه الجملة لا يعني سوى أنّ ثمّة انحرافاً قد حدث في الطّريق إلى استرداد الحقُوق حتى قبل استردادها، فبينما كانت المرأة تبحث عن مكانتها في المجتمع وجدت نفسها تريد مكانة الرّجل! وبينما كانت تُنادي برفض الذّكورة تحوّلت بطريقة ما إلى ذكوريّة وإلى جلاد جديد، ثم ذابت لتُصبح نسخة مشوّهة من تلك الأفكار! إنّ استرداد المكانة أو خلق المكانة لا يعني أن ما للرّجال شأناً نريد أن نأخذه.. بل هنالك أشياء كثيرة للنّساء جرت حضارات على وأدها، ولكنّ مهمة إعادة إحياء ما وئد لا تعني التّدمير أو إخراج الكراهية كردة فعل بقدر ما تعني محاربة الكراهية المؤسسة على أنّها قواعد اجتماعية مدعومة بالأساطير. لقد اختفت نساء كثيرات ليس بسبب الموت أو بسبب الاعتزال، بل لأنهنّ تحولن إلى رجال جدد واضطهدتهنّ الفكرة التي كانت تحمل مُثل الحربة!
في 4 أكتوبر من سنة 1948، أرسلت سيمون دي بوفوار رسالة إلى نلسن ألغرين، وكانت من الجزائر ومن ضمن ما جاء فيها: عندما أعود لباريس لن أرغب في مقابلة أي كان، سأوصد على نفسي عشّي، مثلما تفعل أنت تماماً، وعندما ألتحق بك في المرّة المقبلة سترى -يا عزيزي- كيف سأكون وديعة جداً، لا رغبة لي في رؤية أحد عداك أنت، سأكون لك نعِم الزّوجة المُطيعة، مثل امرأة عربيةّ، هل تعلم أني ما زلت أقرأ «ألف ليلة وليلة»، هنا في الجزائر؟! قرأت حكايات التّجار والشّطار والرّحلات.. كأنّي بها تمتلك وقعاً حقيقياً، أنا هنا في هذا الجنُوب.. أنا هنا أحملك في أعماق قلبي!
أي دي بوفوار أصدق؟
والسؤال الآن: من هي دي بوفوار الأصدق، تلك التي في الرسائل الغراميّة أم صاحبة «الجنس الآخر»؟ هل تخلّت عن فكرة زواجها بألغرين حباً في سارتر، أم امتثالاً لذلك الصّخب الفلسفيّ الذّي بنته معه وقتها؟ هل اضطهدت بدورها رغبتها مقابل الفكرة؟
اشتهرت صاحبة «الجنس الآخر» بنسويّتها وبدفاعها عن حقُوق المرأة، وفي البداية لم تعتبر الكتاب نسوياً قط، وكانت الفكرة تتضمن إعداد موسوعة تزيدُ على ألف صفحة تتناول فيها جوانب عدّة عن المرأة ممّا كتب من النّاحية التاريخيّة والأسطوريّة والاجتماعيّة.
وبعد الأهداف التي حقّقتها الموجة الأولى من الحركات النسويّة كحق التّصويت وحقّ التّعليم، خمدت نوعاً ما تلك القوّة وكان لابدّ من إيقاظها ولكن بقوّة أكثر من الأولى أو لنقل بأبعد ممّا كانت عليه. وحدث أن كانت دي بوفوار من دون رغبة مسبقة منها قد قادت الأمر من خلال عملها المذكور أعلاه، والذي ترفضُ فيه فكرة وجود كائن اسمه امرأة ومعه ترفض فكرة الزّواج والأمومة! فجاءت جملتها الشّهيرة التي تعدُّ العمود الفقريّ للكتاب «المرأة لا تولد امرأة بل تصبح كذلك»! وهو شعار مقتبس من إيراسموس الذي طرحه قبلها بأربعة قرون حينما قال: «الرّجل لا يولد رجلاً بل يصبح كذلك»، كإعلان صريح عن بداية ثورة تنطلق منها ولا تتوقف عند أيّة امرأة.
امتثال لسارتر
ودُعم ذلك الصّخب بأن امتثلت لرغبة سارتر في أن تربطهما علاقة حرّة، فسيمون التي أرادت الزواج من سارتر اختفت فيها تلك الرغبة المُعلنة لتظهر من جديد في مكان آخر أو لنقل مع رجل آخر وهو الكاتب الأميركي ألغرين الذي نادته في رسائلها بـ«زوجي العزيز»، وكتبت إليه قائلة: «لن ننفصل عن بعضنا بعضاً، إنّني زوجتك دائماً». كانت الزّوجة المكتومة بادية في الرّسائل عكس ما هي مضطهدة في العلن «إني مستعدة لأن أطبخ لك يومياً، وأن أكنس المنزل، وأغسل الصّحون، أريد أن أكون لك زوجة عربية مُطيعة»! فالرّغبة لا تزال قائمة في داخلها، بالرّغم من كلّ تلك المثل الفلسفيّة التي اتخذت منها مشروعاً غير قابل للتّنازل!
وما يحدث في الكثير من الأحيان مع الفكرة النّاتجة عن رغبة مُكتسبة غير متجذّرة أو غير قادرة على التّجذّر هي الوقُوع داخل أخطار اضطهاد الذّات والعيش برغبة الآخرين، فالرّغبة المُتبناة هي رغبة ناقصة ما دامت مُطاردة من الرّغبات الدّفينة قبل المجتمع، والتي تبدو أمامها عاجزة عن انتزاع جذُور الفكرة الأصيلة لتُصبح مكانها، رغبة دخيلة يُمكنها أن تتحوّل مع الوقت إلى جلاد ما دام ينتابك شيء من الحيرة أمام التّجربة والحفاظ عليها كما هي. والأمر شبيه بأن تأتي بنبتة أعجبتك إلى حقلك وعليك أن تنتظر ملياً متى تُصبح من ذلك الحقل وتُقبل جذورها في تربتك. فالكثير منها قد يختفي ليس رغبة منك في ذلك بل لأنّ في الأعماق ثمّة جُذوراً لا زال في إمكانها الصّعود إلى الأعلى فجأة. وهذا الصّراع الدّائر قد يُعطي مثالاً للرّغبة الدّخيلة في التحوّل إلى جلاد عبر أفكار تتبناها في الأوّل ثم تتحول في الأخير أنت ذاتك رهيناً لها بالقوّة، فهل حقاً فضّلت دي بوفوار الرّغبة المُضطهِدة على حساب رغبتها الأصيلة؟ وهل تتحوّل حريّتنا في تبنّي فكرة ما مع الوقت إلى خطر وخاصّة إذا ما كانت الفكرة نفسها مصدراً، ومن ثمّ يصبح روّادها مُلزمين باعتناقها كما هي حتّى حينما تبهت في داخلهم؟.
أمثولة «الرابا نوي»
يُروى عن شعب «الرابا نوي» أنّه شعب أكلته «آلهته»، كان هذا الشّعب هو باني تماثيل الـ«موآي» في جزيرة عيد الفصح التي أذهلت البشريّة. وقد بُنيت هذه التماثيل من أجل تكريم «الآلهة» التي أوصلت عشائر «الرابا نوي» إلى جزيرة عيد الفصح، أو كما كانوا يعرفونها باسم «جزيرة على الطريق إلى اللانهاية»، ولكن هذا التّكريم استحال إلى فجيعة، فقد شرعت العشائر في بناء تماثيل لـ«الآلهة»، وتطوّر الأمر إلى تنافس حول أيّة عشيرة تكرّم الآلهة أكثر! ولم يكن بناء تمثال «الموآي» شيئاً سهلاً، وكذلك نقله من مكسر الصّخر البركاني إلى منطقة العشيرة على جذوع النّخيل! وكلّ الطّاقات التي كان يجب أن تصرف في إنشاء الحقُول والبساتين والصّيد صُرفت على تكريم «الآلهة»!
جُردت الجزيرة من غابات النّخيل من أجل الطقس لا من أجل بناء قوارب صيد، وفي لحظة ما وجد «الرابا نوي» ألا لابد أن يأكلوا أنفسهم! وكان ذلك، وكبُرت «الآلهة» ووصلت إلى تمثال حجري عملاق في جزيرة واحدة! ولكن شعب «الرابا نوي» قلّ واضمحل!
وكذلك الأفكار قد تلتهم مُفكريها وخاصّة إذا ما تفوقت عليهم ليس في كِبرها بل في تغوّلها، ووجدوا أنفسهم سجناءها وملزمين بها لأجل الصّخب! إنّ دي بوفوار التي أكلتها فكرتها شبيهة تماماً بشعب «الرابا نوي» الذّي أكلته «آلهته»، فقد كان لابدّ لها أن تستمّر في علاقتها مع سارتر بذلك الاتفاق الفلسفي، ليس لأنّه رفيقها فحسب بل أيضاً لأن ثمّة مدرسة شكلاها معاً جعلتها تلتزم أمامها بأن تتنازل عن رغبتها في كثير من المرات فداءً أو تقديراً لكلّ أولئك الذّين كتبوا عنهما، أو للعالم الذّي حرّكاه فأصبحت في الأخير رهينة ذلك الابتكار.
التراجع الضّمنيّ
كان على المرأة فيها أن تتنازل بالرّغم من أنّها كانت رائدة النسويّة.. لقد سيطر سارتر عليها في الوقت الذّي كانت تثور فيه ضد السّيطرة على المرأة.. ولذلك فإننا نحتاجُ غالباً إلى أفكار تستطيع أن تتراجع للخلف قليلاً مثل سهم حتى تنطلق بقوّة. إنّ فكرة لا يُمكنها أن تخطئ هي فكرة قد تجلب نقيضها، لا توجد أفكار إنسانية تولد كاملة، الأفكار الكاملة هي التي لا زالت إلى اليوم تسمح لنفسها بأن تمتد عبر اكتساب ما تضيفه أو تتراجع عنه، والتّراجع هنا قد لا يعني العودة تماماً، بل هو نوعٌ من التّوسع بتجريب ما تخلّى عنه مع المستجدات التّي طرأت. فلربّما انغلاق فكرة ما أو انسداد مسارها أو توقفها عن التطور يحتاج قليلاً للعودة إلى الخلف حتّى تستعيد الفكرة لمعانها. إنّ ما حدث مع سيمون دي بوفوار هو وجود ذلك التراجع الضّمنيّ كحقّ إلا أنّها اعتبرته هزيمة، فما رغبت به مع سارتر بأن يكُونا على علاقة مفتوحة تراجع أمام ألغرين، إلا أنّها كانت أضعف من أن تقبل ذلك على الملأ.