إبراهيم الملا
«لا بدايةٌ للبداية، والنهايةُ لا تنتهي أبداً»
تتغذّى الخرافة الشعبية على المجال الحسّي المُشوّش الذي يفرضه علينا «التهديد»، سواء كان هذا التهديد ملموساً أو متخيّلاً،ما يخلق مساحة خصبة للخوف الجمعي إزاء ما هو مختلف ومربك للوضع السائد، وقد يكون الخوف نابعاً أيضاً من تخيّل اللامرئي، أو الإبهام المرافق للشك والالتباس والتوجّس، والإبهام بدوره يتنفس دائماً وسط محيط بصري معتم، ولذلك صار لصيقاًً بظواهر الطبيعة المتصادمة مع الوضوح والهدأة والطمأنينة.
يتمدّد «الإبهام» ويتوسّع ويهيمن عند انحسار «اليقين» وغلبة «الظن» وتسيّد الشُّبهة، وتتشكّل سردياته المرعبة في الليالي الداكنة، وعند حدوث تغيرات مناخيّة متطرّفة، وأثناء دخول الغرباء والظواهر المستحدثة إلى المجتمعات المغلقة والنائية، وصولاً إلى الحقب التاريخية المؤلمة التي تتوحّش فيها الحروب، وتنتشر فيها المجاعات والأوبئة والانتكاسات الاجتماعية الكبرى.
تهيئ هذه الظروف الخارجة عن الخطوط الآمنة في أي مجتمع، لظهور بيئة سردية مغرية لولادة الخرافات والأساطير والشخصيات المروّعة ضمنياً وظاهرياً، لأسباب متعددة منها تعزيز الجانب التفسيري أو الشقّ التأويلي المتعلق بهذه الأحداث المخيفة، ومنها ما هو أخلاقي للبحث عن مبررات ومسوغات تنطلق من الضمير الجمعي، ومنها ما هو ديني يتعلق بنزول سخط السماء، والذي يستوجب التوبة والطهرانية لتحقيق الخلاص الذاتي ومجابهة التبعات الخطيرة للنهايات الغامضة.
وتتولّى الخرافة أحياناً دوراً تعويضياً، يتمثّل في المقاومة الفسيولوجية أمام الذعر الإنساني الشامل، فهي تستوعب هذا الذعر وتتكيّف معه، وتستشفّ ملامحه، وتتسلّل إلى أحراشه الغيبية وغير المنظورة، من أجل تحويل مساره وتوظيفه داخل أنساق تعبيرية متنوعة في مساراتها وأنماطها واجتراحاتها مثل: الرواية الشفهية، وقصص الأدب الشعبي، واللوحة والمنحوتة والفيلم والمسرح، والكثير من الأشكال المجسّدة والافتراضية التي تغرف من معين الخرافة وتصدّرها في قوالب متفاوتة تنتقل من البساطة إلى التعقيد، ومن البدائي إلى المعاصر، ومن الميتافيزيقي إلى الملموس.
أساطير شعبية
وتمثّل دراسات الباحث الإماراتي الدكتور عبدالعزيز المسلّم المتعلقة بعرض وقراءة وتحليل الأساطير الشعبية، جهداً استقصائياً مقدّراً للوصول إلى جذر هذه الأساطير المحليّة، واكتشاف أصولها ومنابعها، وملاحقة تحولاتها أيضاً، وما طرأ عليها من تعديل وتحوير وإضافة وحذف تبعاً للبيئات المختلفة التي شاعت فيها هذه الأساطير وزرعت في محيطها حقلاً سردياً تفاعلياً ومتوارثاً في المخيال الشعبي لهذه البيئات المرتكزة على خصوصيتها الثقافية والفلكلورية.
وفي كتابه الصادر مؤخراً بطبعة ثالثة مزيدة ومنقّحة تحت عنوان «موسوعة الكائنات الخرافية في التراث الإماراتي»، يأخذنا الدكتور عبدالعزيز المسلّم إلى مسارات بحثية مشوّقة وشائكة في الوقت ذاته، لأنها مسارات تجمع بين الانطباع والتوثيق والتشكيل البصري والبعد الدرامي والعمق الأنثروبولوجي، ضمن بناء عام يشبه «متحف الأشباح»، حيث يلقي الباحث ضوءاً كاشفاً ومكثفاً على كل ثيمة مرعبة ضمن وحدتها السردية المستقلة، مسافراً وسط أدغالها السوسيولوجية، ومتتبعاً خيط الرواية الشفاهية من منبعها إلى مصبّها، مستنداً على المرجعية اللغوية التي تشكّلت منها مسميات وألقاب وصفات هذه الكائنات الخرافية في اللهجة المحليّة، مقارناً بينها وبين العديد من خرافات الشعوب الأخرى المتقاطعة مع سمات وتصرفات الكائنات المحلّية المرعبة.
وفي تقديمه للطبعة الثالثة من الكتاب، يقول المسلّم «تدخل الحكاية الخرافية في هيئتها العامة ضمن أقسام الأدب الشعبي، أمّا في صفتها الخاصة ومضمونها، فتأتي ضمن باب المعتقدات وصيانة التقاليد، فلكل انحراف خلقي أو انحلال اجتماعي، كان هناك كائن خرافي مخيف، مهمته ردع من جرؤ على تجاوز تلك الحدود، لأن الآفات الاجتماعية كثيرة مثل: الحسد والعري والسرقة والخيانة والجشع والظلم والغدر والحقد، وكانت هذه الحكايات الخرافية أشبه بتطعيمات مؤلمة للصغار، وكانت تستقر في أقصى ذاكرتهم، وتساعدهم كثيراً على تجنب هذه الآفات الأخلاقية».
ونجد في تحليل المسلّم هنا أثراً قوياً للدافعية الاجتماعية والأخلاقية في صياغة الشكل التخيّلي لعديد من الشخصيات الوهمية المخيفة، والتي يمكن تبرير شيوعها وتناقلها بين الأجيال بعامل ظرفي مهم، هو «حراسة القيم والأعراف السائدة»، من خلال صناعة «سواتر حكائية» تمنع الآخر أو الغريب أو المختلف من انتهاك هذه القيم واختراق هذه الأعراف، حفاظاً عليها من التغيير والإبدال ومن النقد والتساؤل أيضاً.
ولذلك تعمل المجتمعات المغلقة والبيئات المحافظة وبشكل متواصل على إنتاج مثل هذه الحكايات «الاستباقية»، وخلق هذه الرموز الماورائية، والتي يتجاوز الكثير منها المنطق والبداهة والقياس العقلي، غير أنها تظل فاعلة وحيّة ومؤثرة في وعي الأهالي البسطاء من أجل تكريس آليات الإخضاع والخنوع والذوبان في وعاء مجتمعي يغلب عليه الحذر من المفاهيم الجديدة، ويطغى عليه الخوف من تجاوز الحدود الثابتة والمرسومة سلفاً.
أفلام ومسلسلات رعب
ورغم أن الكثير من الحكايات الغرائبية والكائنات الخرافية، قد لعبت دوراً واضحاً في تحجيم المغامرة الفكرية واحتواء المعرفة في قوالب صغيرة وضيقة لا تتجاوز البيئة التي خرجت من أعطافها، إلاّ أن تأثيرها في مجالات الأدب والفنون التعبيرية كان جامحاً في الأزمنة اللاحقة على فترة ظهورها، ففي كتابه «تشريح النقد»، يرى الناقد الأدبي المشهور نورثروب أن جميع أجناس الأدب -وليس جنساً واحداً- مُستقاة من الخرافة، خاصةً خرافة حياة البطل. أما الناقد الأميركي روبرت سيجال فيرى أن العلاقة بين الأدب والخرافة أخذت أشكالاً متباينة، وكان أبرز هذه الأشكال استخدام الخرافة في الأعمال الأدبية، إذ كانت تتم قراءة الخرافات بالتبادل حرفيّاً ورمزيّاً، وكان يُعاد ترتيب أحداثها، بل وسردها مجدداً بصورة مختلفة جذريّاً. ويمكن العثور على هذه الخرافات في جميع أنواع الفنون، بما في ذلك الموسيقى والفيلم السينمائي، وقد استخدم فرويد الشخصيتين «أوديب وإلكترا» للإشارة إلى أعمق الدوافع الإنسانية، كما اقترض من الأطباء النفسيين شخصية نارسيسوس للإشارة إلى حب الذات.
وتحيل الخرافة أيضاً إلى الميثولوجيا الكلاسيكية، ولكنها شهدت دون شك تطورات كبيرة على المستويين الفني والدرامي لها، ورغم افتقار الفنون التعبيرية في الوطن العربي عموماً لهكذا تناول يأخذ الثيمات الخرافية الشعبية إلى منحى تجسيدي على الخشبة أو على شاشة العرض أو في اللوحة أو تشكيلات المنحوتة، إلاّ أن هناك بعض المحاولات الجادة التي وظفت هذه الخرافات لخدمة أعمال سينمائية ودرامية حجزت لها موطئ قدم في تصنيف أفلام ومسلسلات الرعب، بغض النظر عن تفاوت مستوياتها الفنية بين التميّز والخفوت، والنجاح والإخفاق، ونذكر من هذه الأعمال مجموعة من الأفلام المصرية، مثل «سفير جهنم» و«الإنس والجن» و«البيت الملعون» و«التعويذة» و«كابوس» و«الفيل الأزرق»، ومن المغرب فيلم «قنديشة»، ومن الإمارات فيلم «جن»، ورأينا مؤخراً مسلسلاً مصرياً ذاع صيته وعرضته إحدى القنوات العالمية وهو مسلسل «ما وراء الطبيعة» المقتبس من أعمال الكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق المتخصص في أدب الإثارة والغموض، حيث تناوب على إخراج المسلسل كل من المخرج المصري عمرو سلامة، والمخرج الإماراتي ماجد الأنصاري.
ونظراً لاحتواء كتاب «موسوعة الكائنات الخرافية في التراث الإماراتي» للدكتور عبدالعزيز المسلّم على أبعاد درامية متنوعة، وشخصيات خرافية مقيمة في الذاكرة المحلية الجمعية، فإن توظيف ثيمات ومواضيع الكتاب يمكن أن ينتج لنا مسلسل رعب متميزاً في هذا السياق، وأن يضيف للدراما المحلية ملمحاً جديداً ومغايراً يتجاوز الشكل المكرر للمعالجات التقليدية في هذه الدراما والمتمحورة في غالبها على التراجيديا والكوميديا، بعيداً عن المعالجات المبتكرة القادرة على انتشال المسلسلات والأفلام المحلية من نمطها الثابت وإيقاعها الرتيب.
«خطّاف رفّاي» و«أم الدّويس»
إن شخصيات خرافية مثل «خطّاف رفّاي» و«بابا درياه»، و«أم الدّويس» و«غريب» و«الهامة» و«أم الهيلان» و«جني المريجة» و«روعان» و«عثيون» و«عفريت القرم» و«صابر» و«قوم الدسّيس»، وغيرها من الشخصيات التي يزخر بها الكتاب، هي شخصيات تختزن الكثير من الإشارات الدالّة على هوية المكان وعلى الموروث الشعبي الثري والمتنوع بالإمارات. وهي شخصيات توثّق لحيثيات وظروف ومواقع مهمة في الدولة، وإعادة إحيائها درامياً وعلى نطاق إعلامي واسع، سوف يعزز دور الأدب الشفاهي المحلي في تطوير المنتج الدرامي، وإيصاله لمنصات عرض عالمية مهمة، قد تساهم في إيصال صوت وملمح التراث الإماراتي المتقاطع مع التراث الإنساني في خطوطه العامة ودوافعه المشتركة، ذلك أن منشأ أية حكاية حتى لو كانت مرعبة، هو منشأ أصيل لخيالات وأحلام وسرديات وطموحات التغيير لدى الإنسان منذ القِدَم وإلى اليوم.