بقلم: فرانسوا بينشو
لم يكن موليير سبينوزياً، على الأقل. ومع ذلك، قال كل شيء عن باروخ سبينوزا(1) والأدب، في مسرحيته: «البورجوازي النبيل»! وعلى منوال جوردان الذي يكتب النثر من دون أن يعرفه، هناك كتاب كثيرون سبينوزيون -أو كانوا- كلذك من دون أن يفهموا سبينوزا، من الأساس، على حد ما كتب جيل دولوز في »سبينوزا ونحن». فقد كان لورنس وفيرجينيا وولف ووايتمان وكيرواك وعدد من الكُتاب الإنجليز أو الأميركيين، بطبيعة الحال، سبينوزيين بالفطرة. إذ إن السبينوزية، نزعة قد نَصير إليها من دون أن نعرفها. ومع ذلك فالكتاب الأنجلو-ساكسون بعيدون عن أن يكونوا سبينوزيين بمفردهم. وبطبيعة الحال نستطيع أن نرصد وجود قرابة لدى بعض الكتاب الهولنديين بكل تأكيد، وأيضاً في بعض كتابات كليست أو هولدرين... وهكذا، نستطيع الاستمرار بلا نهاية في هذا العبور الجغرافي بحثاً عن أي سبينوزي مجهول! والموضوع التالي لا ينضب، والعلاقات القائمة بين سبينوزا والأدب مشدودة كخيوط البساطة. وإذا كان نتاجه مقدراًً باختلاف الرؤى، فلا ينقصه بالتالي الصدى عبر القرون والقارات.
وفي فرنسا، كان فولتير أول من دوّن سطوراً بختم سبينوزي. وكما كان دائماً، طرق هنا أيضاً بقوة: «لا أعرف سوى سبينوزا الذي فكر بصورة جيدة إلا أن أحداً لم يتمكن من قراءته» (رسالة إلى دالامبير). ومن دون شك، لا يعتبر سبينوزا فيلسوفاً يسهل الاقتراب منه، غير أن المديح الموجه له هنا لافت للنظر حقاً، وذلك لأنه موجه من قبل مفكر لا يمدح عادة أحداً بسهولة! والحق يقال، كان فولتير في بدايته سبينوزياً، لكراهيته للايبنز، إذ إن مؤلف «كانديد» (فولتير)، مثل الكثيرين من مغتابي لايبنز، التحق بصفوف التمرد السبينوزي! وفي عصر الأنوار، لم يكن فولتير بمفرده من ألقى ضوءاً متسامحاً على كتابات سبينوزا، فقد استدعاه أيضاً ديدرو في «جاك القدري»: «...وقتئذ فكر جاك كما قبطانه. تبدى الفرق بين العالم الفيزيقي والعالم الأخلاقي لديه خالياً من المعنى. وسكب القبطان في رأسه جميع الآراء التي اقتبسها من سبينوزا، الذي يعرفه بالقلب». بيد أنه يجب الاعتقاد أيضاً، للمفارقة، بأن قدَرية «جاك» سبينوزية. وسبينوزا جبري وليس قدرياً. فإذا كان الفيلسوف يرى كل شيء محدداً، فإنه قد ينكر كونه مكتوباً في الأعالي. ونظرياً، من الممكن أن يكون كل شيء مشروحاً، ولكن كل شيء غير مقدر سلفاً، ومن الضروري السعي في العمل... ولم يعظم سبينوزا الفلسفة التسويفية Attentisme، بل هو على العكس من ذلك!.. وفي قائمة المتأثرين بسبينوزا أيضاً، قرأ روسو مؤلفَ: «الأخلاق»، ومراسلاته تؤكد ذلك. وإذا لم يكن متفقاً معه، فمن غير المستحيل أن الفيلسوف الهولندي قد أثر على فكره السياسي، كما أثر على كثيرين غيره.
صرْعة السبينوزية
وفي القرن اللاحق، أصبح سبينوزا صرْعة. فقد رأى الحلوليون (2) فيه مبشراً ورائداً، وقد أثر في العديد من الروائيين، وتحديداً الرومنطيقيين الألمان. ومثلما كتب جاك رانسيير في «الكلام الصامت» (دار آشيت، 1998) فإن: «سبينوزية فلوبير مصبوغة بهذه الحلولية الرومنطيقية، التي تنتمي إلى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، والتي أخذت في أربعينيات القرن نفسه شكل عبادة العدم البوذي، وستدرك -بالضبط- من استدعى الفيلسوف لكي يعين التأمل الجمالي، كمعرفة الفكرة، والمعرفة في حد ذاتها». وفي الواقع، فكل من فلوبير وسبينوزا حالة بسيطة يمكن الاستدلال على تشابه طرفيها بجدل شكلي: فلوبير يحب آلفريد لو بوانفان، والأخير بدوره يحب سبينوزا، وإذن فإن فلوبير يحب سبينوزا. وهذا الجدل الشكلي يجد ذيوع صيته في نتاج فلوبير الأول، لأنه إذا كانت مدام فلوبير هي جوستاف، فإن الشيطان في: «إغواء سان أنطوان»، هو آلفريد لو بوانفان. ومنذ ذاك، لا نندهش من رؤية هذا الشيطان يذكر أقوالاً سبينوزية خالصة!
بول نيزان وسارتر
وبول نيزان، نفسه، تكلم عن سبينوزا عن طيب خاطر: «لم يكن سبينوزا من طائفة المستغلين». وفي مقدمة كتابه: «بول نيزان، مثقف شيوعي 1926 - 1940» (مطبوعات ماسبيرو، 1970)، لخص جان-جاك بروشيه روح العصر: «لاقى جميع الفلاسفة الشباب المنتمين إلى جيل نيزان أفكار سبينوزا، إذ رأوه أخلاقياً علمانياً، مبشراً للمادية، بخلاف لايبنز، حامي الامتثالية». ومثل فولتير، كره أيضاً نيزان لايبنز. وسارتر الذي خالط نيزان في دار المعلمين العليا، استدعاه في مقدمة: «عدن العربية»: «مرغماً على دراسة «خطاب الميتافيزيقيا»، انتقم راسماً بموهبة انهيار هذا الفيلسوف الذي يعتمر قبعة تيرولية»(3)، واسماً ظهره بنعل سبينوزا. ولاحق باروخ سبينوزا «المكيدة»: الشخصية الرئيسية لهذه الرواية المنشورة في عام 1938، برنار روزنتال، الطالب في دار المعلمين والمؤمن بالمثاليات الشيوعية: «تتأسس رسالتنا الجوهرية في الفلسفة على رد الرنة، نبرة أزمتنا، إلى كافة الأنظمة القليلة القيمة، إلى سبينوزا وهيجل وماركس». وقتذاك، استرد الماركسيون سبينوزا. وبول نيزان، تحديداً، فهم نتاجه جيداً. ومراسلاته (منها خطابه إلى خطيبته - جيبوتي، يناير 1927)، وملاحظاته وبالتأكيد رواياته أثبتت لنا هذا: «لن نسامح أنفسنا دون الجميع»!. وهو ما نطالب به: «يرتكز الجوهري على الموافقة» رواية «المكيدة».
المثقفون اليهود
وهذا «البرنال روزنتال»، غير يهودي بالمصادفة، ولكن عبر أمه مثل الجميع، وضح نقطة أخرى مهمة. وقد مثَّل سبينوزا جزءاً مكملاً للثقافة اليهودية، واستوحاه كثير من المثقفين اليهود من بعيد أو من قريب. إذ رجع إليه الشاعر الألماني هاينه، وفرويد، وأينشتاين (وقصيدته الشهيرة)، وكذا حائز نوبل 1978: إيزاك باشفيز سنجر وكتابه: «سبينوزا شارع السوق» (مطبوعات فوليو).
وكذلك، لم تكن المدرسة اليهودية النيويوركية بعيدة عن هذا في الستينيات. فقد ذكره أحد حائزي جائزة بوليتزر، برنار مالامود، في كتابه «رجل كييف» (مطبوعات سوي)، فقبطان «جاك القدَري» لا يعد وحده من عرف سبينوزا: «مشمئزاً من التاريخ، عاد ياكوف إلى سبينوزا، معيداً قراءة الفصول المكرسة عن النقد الكتابي، والخرافات والمعجزات التي عرفها بقلبه إلى حد ما». وهذه الرؤية المستوحاة من قضية «بيليس»، تدور تحت حكم القيصر نيقولا الثاني: ياكوف شبسوفيتش بوك، المتهم بجريمة قتل، يضع تحت فراشه نصوص سبينوزا! والقاضي، المتحمس أمام الفيلسوف الخالد، يسأله بفضول عن سبينوزا أكثر من سؤاله عن الجريمة محل التحقيق! وبالتأكيد، لم يكن هذا هو النقاش الفلسفي الأخير الذي رددته غرف قصر العدالة بكييف، إلا أنه نقاش من نقاشات عدة شهدت جوانب من المجد الأدبي... وأكثر من ذلك، وضع برنار مالامود على فم ياكوف المتواضع حِكماً ساخرة لا ينقصها الفهم والإدراك. ويتبقى سؤال لم يجب عليه مالامود: من يشبه سبينوزا؟
بورخيس و«مكتبة بابل»
ويأتي خورخي لويس بورخيس نفسه ضمن المستلهمين من سبينوزا، وقد خاطر بالدخول إلى الامتحان: «إنه يهودي حتى جلده/ أترجّي اللون، بعينين حزينتين». هذان البيتان المأخوذان من قصيدة منظومة حسب البحر السكندري(4)، معنونة «باروخ سبينوزا» لا تحمل أي تأويل (منشورة في فرنسا، عام 1976، ضمن «العملة الحديدية»، مطبوعات غاليمار). بل إن سبينوزا لدى بورخيس ملهم لا مفر منه! فكل قراءاته الجيدة تنتهي في صفحات مؤلف «مكتبة بابل». وفي النص القصير الذي يفتح ديوانه «تاريخ الليل» (مطبوعات غاليمار، 1977)، ذكر بورخيس كلمة جديدة عن سبينوزا، وتكلم «عن كل هذه الأشياء المفردة التي تكون، ربما -كما عرضها سبينوزا- تمثلات خالصة وذات عدة مظاهر لشيء أبدي واحد».
سبينوزا يصفع هيجل!
ولكن إذا كانت معارف بورخيس السبينوزية غير متوقعة، فإن ظهور فيلسوف آمستردام أيضاً في عالم الكتاب البوليسي غير لائق! ففي «وصلة سبينوزا» (مطبوعات سوي، 1998)، كتب لورنس بلوك مؤلف: «ثمانية ملايين طريقة للموت» (مطبوعات غاليمار، 1989) شخصية مخبئ الأشياء المسروقة:آبل كراو، قارئ «الأخلاق»: «إنه طيب، يأكل الحلوى ويذكر سبينوزا». بيد أن هذا التاريخ لا يبغي المتعذر روايته: «سبينوزا يصفع هيجل» لجان-برنار بوي (طبعة ثانية، 1996). فهذا النص قابل عصبتين متنافستين، العصبة المتمردة السبينوزية ومنافستها الهيجلية، في الحرب الأهلية، وتقاتلتا بالصرخات: «سبينوزا يصفع هيجل!». (جيمس) جويس، السبينوزي، ينتعل حذاء جلدياً أرجوانياً، ويقود دراجة «جوزي»! ورغم المقابلة، تذوق سبينوزا الحقيقي هذا العالم البوليسي اللانمطي الذي دوّن فيه: «الموت لا يوجد إلا لمن يراه قادماً». وبعد كل هذا النسيان المقصود، تتبدى قصيدة فيكتور هوجو، وفقرات لهنري ميلر وليون شستوف وآخرين... وهذه الأسطر الناقصة من الممكن أن تنتهي بنقطة النهاية. ولكنها خطأ، فـ«إلخ..» هي أيضاً أكثر سبينوزية. وإذن، إلخ.. مفتوحة إلى ما لا نهاية.
(*) هوامش المترجم:
(*) Magazine Litteraire، n°370
1 - باروخ سبينوزا (1632 - 1677) فيلسوف هولندي شهير.
2 - القائلون بوحدة الوجود.
3 - من منطقة التيرول بجبال الألب.
4 - بحر شعري من اثنى عشر مقطعاً صوتياً.