بول شاؤول
كتب أنطون تشيخوف أكثر من ألف قصة قصيرة، ونافس بها للمرة الأولى كتاب الروايات الطويلة أمثال دوستويفسكي، وتولستوي، وغوغول، واشتهر كأحد كبار القصة، سواء في القرنين الماضيين في روسيا والعالم. ولكن، على الرغم من ذلك، ولأن كتابة القصة القصيرة ورونقها وتوزعها قد تراجعت، فقد تراجع معها حضور إنجازات تشيخوف، ولكنه مقابل ذلك الإنتاج الغزير في القصة القصيرة، كتب نحو أربع مسرحيات أو خمس..
اعتبر رائداً من رواد المسرح الحديث في القرن العشرين، وطار صيته في العالم، فقدمت مسرحياته في مختلف أنحاء الكرة الأرضية، بحيث تراجع الكلام عن إبداعه القصصي، وربما هذا ما حصل مع بيكيت: كتب روايات مهمة متماهياً بالقصة الفرنسية الجديدة، وفي السابعة والأربعين من عمره، ها هو يكتب أول مسرحية له «في انتظار غودو»، ثم «نهاية اللعبة» و«الشريط الأخير»، فاعتبرت مسرحيات «العبثية» فتحاً في الكتابة المسرحية، ونال جائزة نوبل عليها، ولكن غصة في قلبه، أنه كروائي تراجع الاهتمام به.
لكن، تشيخوف، لم يقتصر على القصة والمسرح، بل على أنه كاتب رسائل من الطراز الأول، وبعث منها أكثر من ألف رسالة تغطي مجمل اهتماماته الفنية والسياسية والعائلية.
لم ينشر سوى النزر القليل منها، أو أجزاء في أوقات متباعدة، إلى أن تولى الباحث الألماني بيتر أوربان مهمة جمع هذه الرسائل، وتتبع حياة تشيخوف في روسيا وغرب أوروبا على امتداد عشرين عاماً، وأصدرها مع ألف صورة لتشيخوف وعائلته وأصدقائه ومسرحياته في كتاب، فما كان من المترجم علاء عزمي إلا أن ترجمها كلها إلى العربية ترجمة وثيقة، وصدرت قبل عدة أعوام عن «المجلس الأعلى للثقافة» بإدارة الباحث والمفكر المصري الكبير جابر عصفور.
والكتاب من الحجم الكبير، وقد طبع على ورق فاخر، بإخراج رائع...
إحدى دور النشر العربي في صدد إعادة نشر هذا المجلد، ومن هنا هذه المقاربة، وإعادة تقدير عدد من رسائل تشيخوف:
10 نوفمبر 1887 إلى أ.س. كيسيليوف
صاحب السعادة! أحيطك علماً بأن مسرحيتي سوف تعرض يوم الخميس 19 نوفمبر، أرجو أن تكتب لك ليليشا ذلك الموعد على جبينها الذي تحب أن تريك إياه كلما نظرت إليها.
إننا في انتظارك، وإذا تحتم عليك عدم المجيء فإنني سأعطيك في المجلة دواءً يجعلك تخسرها وتهاجر إلى أميركا، إذ لا توجد أسباب تعوقك عن الحضور غير (أ) دوسينطاريا. (ب) فيضان. (ج) فلس مفاجئ (ثورات شعبية) (هـ) زوال العالم، (و) وصول شاه فارس لبانبيكو، ولن أقبل غير تلك الأسباب! هل تسمع؟.
ولأن المستحيل قد يغدو أحياناً حقيقة واقعة، وإذا حدث ولم يرد الرب ومنعك أي من الأسباب السالف ذكرها فلتخبرني على الفور.. يجب أن أعرف بوضوح تام هل ستأتي أو لا؟، ولأنني أعرف مشاعرك الحيوانية، وشخصيتك المزعجة، وأعرفك عدواً للعلوم والفنون، فإنني على استعداد لاستمالة شخصك - بتأجير امرأتين صغيرتين وإرسالهما إلى بابكينو ليستدرا عطفك فربما تؤثران فيك فتمنحان قلبك القاسي بعض الحنان.
وكلي أمل في ماريا فلاديميروفنا، أطلب منها أن تقنعك باستحالة عدم الحضور إلى موسكو، فإذا لم تكن لديكما رغبة في مشاطرتنا فشل مسرحيتي التعيسة فلتحضرا، لنجتمع تحت مظلة واحدة ستنفض قبل انقضاء 19 نوفمبر.
11 سبتبمير 1888 - إلى أ.س. سوفورين
تنصحني بالكف عن مطاردة أرنبين في وقت واحد، والتوقف عن ممارسة الطب، ولست أعلم لمَ ينبغي عليّ فعل ذلك؟ حقاً لا أعلم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فمن يمتلك الطعم يجيد الصيد وأنا أمتلك الطُّعم، أما الاحتمالات الأخرى فغير واردة (في تفكيري) إذ يراودني شعور جميل حيث تتراءى لعيني قدرتي على مزاولة مهنتين لا واحدة.. الطب هو زوجتي الشرعية، أما الأدب فهو عشيقتي، حيث تثقل إحداهما على أعصابي أسكن إلى الأخرى، وليكن تشبيهي هذا خارجاً عن الآداب، لكنه يروقني ولن أغدر بإحداهما لأتخلص منها.. فلو حدث أن توقفت عن ممارسة الطب فبالكاد ستخصص أفكاري المتدفقة في ساعات فراغي للأدب فلستُ منظماً.
6 أكتوبر 1897 - إلى ل.أ. أفيلوفا
تشتكين من أن أبطالي مكتئبون، وللأسف ليس الذنب ذنبي! ويحدث ذلك دون قصد، كذلك فحين أكتب لا يساورني أدنى انطباع بأنني أكتب شيئاً كئيباً، فضلاً عن أنني دائماً ما أكتب وأنا معتدل المزاج، ويلاحظ أن العابسين والسوداويين يقدمون شيئاً ساخراً في أعمالهم حين يقذفون أحد مباهج الحياة إلى الاكتئاب، وأنا شخص محب للحياة، على الأقل عشت الثلاثين عاماً الأولى من حياتي، مثلما يقولون لمتعتي الشخصية.
صحتي صباحاً لا بأس بها وفي المساء رائعة.. لا أفعل شيئاً ولا أكتب وأفتقد شهية الكتابة، لقد صرت كسولاً جداً.
10 مارس 1900 - إلى أ.س. سوفورين
ما أكثر مرضى السل هنا! أي شقاء وأي جزع يحيط بهم! الفنادق والمساكن الخاصة هنا لا تقبل شديدي المرض، ويمكنك تصور أية حكايات يجبر المرء على مشاهدتها.. الناس هنا وفي الضواحي تموت من الوهن ومن الإهمال التام.. كل ذلك في رحلة سعيدة! لقد فقدتُ كل رغبة في الشمس والبحر.