ستون عاماً على موت الكاتب والمفكر الفرنسي ألبير كامو في حادث سيارة، وهو في ريعان شبابه وعطائه ومنجزاته، لحظة تراجيدية وراءها زمن من الإبداع والحرية والتجديد، وتجاوز الأنظمة الفكرية التوتاليتارية، وخصوصاً السوفياتية في تلك المرحلة. عرف كامو كل ما في زمنه من أحداث وظواهر، من الحرب الإسبانية والحرب العالمية الثانية، والحرب الجزائرية، والمجد (جائزة نوبل عام 1967)، والسجالات الأكثر حيوية وقسوة خصوصاً مع الفيلسوف جان بول سارتر.
نحو مئة عام من مولده (1913) في موندوف (الجزائرية) من أب فرنسي وأم إسبانيةأمية، وتكاد تكون طرشاء وعمياء، وتعمل خادمة في المنازل بعدما هجرها زوجها.. جزائري! نعم! فهناك وُلد. جزائري بالبيئة، فرنسي بالهوية.
بعد ستين عاماً من رحيله، مازال نتاجه، ليس فقط، مقروءاً في كل العالم، بل إن حضوره المتوهج ما زال يبرق في الذاكرة الجماعية.
المتعدِّد
ولكن بما أن كامو متعدد، أديب، مسرحي، صحفي، فيلسوف، وفنان، فكان لكل قارئ ذائقته، أي لكل «طرف منه»، فبالنسبة إلى بعضهم هو الكاتب الكبير الذي برزت حساسيته الفنية في جملته الأولى التي كتبها في مؤلفه «أعراس»، أما بالنسبة إلى بعضهم الآخر فهو المفكر، الداعي إلى التسامح، والسلام، وفي ظل الحرب الباردة «الأيديولوجية» بين اليسار واليمين، واجه الفكر السياسي المطلق، الأيديولوجي والشموليـة، ودان كل أشكال البربرية والقمع من حيثما وردت...
وهناك كامو الصحفي، الذي دان فظاعة قصف هيروشيما وناكازاكي بقنبلتين ذريتين، وطالب بإلغاء حكم الإعدام. أما كاتب هذه السطور، فيعرف كامو المفكر الحر، غير الأيديولوجي، وهنا مشكلته مع سارتر، الذي، انطلق من فكرة «المعيش» في تناول الواقع، والظواهر الاجتماعية، وبنى معمارية فلسفته الوجودية التي تأثر بها هوسرل وهايدغر، لكنه عاد إلى تبني «المفهومية» التجريدية (الأيديولوجية)، وهنا نقطة الخلاف مع كامو.
فكامو جافى كل فكر أيديولوجي مقولب، «جوهري»، يأتي من العقلانية «المحددة» ليتعامل مع فكرة التاريخ، التي رفض تلقيها «كنظام مطلق»، أو خدمتها بعيون مغمضة. من هنا تأتي نظرية العبث عند كامو، العبث عنده يُعايَش، يعني أنه ليس «مفهوماً» concept بل مسألة حساسية، شعور بالعبث، يعيش العبث من دون تفكيره كمجاز مفهومي، إنه شغف وألم في الفكر. جهد كامو في كتاباته لوصف العبث تحت شكل مطهر (منقّى) متحرر من كل مفهومية قد تؤدي إلى الانتحار. في كتابه (الإنسان المتمرد) العبث هو المنحى الأكثر عمومية حول «النيهيلية» (الترجمة القاموسية العربية لها هي: الكلبية) أي السلبية المطلقة، وتجاوزها: العبث بهذا المعنى تجسيد للنيهيلية، لكن كامو يوضح: ليس هناك نيهيلية سلبية وأخرى إيجابية، وهنا يلتقي ويتقاطع مع دوستويفسكي ونيتشه، فإشكاليتهما قريبة من إشكاليته، وكلتاهما في (الإنسان المتمرد)، وهذا نجده أيضاً في رواية «الغريب» ومسرحية «كاليغولا».
كامو وسارتر
أما المسألة الأخرى التي أثارت جدلاً كبيراً، ونقداً من بعض المثقفين في الحرب الجزائرية... فأولاً، لطالما صرح كامو بارتباطه بمسقط رأسه الجزائر، كتب: «منح العدالة للشعب العربي الجزائري وتحريره من النظام الاستعماري»، هذا يدل على تمسكه بفكرة العدالة، حتى ولو انحرف (كما يقول عديدون) عن تأييده المقاومة الجزائرية المسلحة التي تطالب بخروج الاستعمار الفرنسي من أراضيها، هنا، رأي كامو مضلل، أو حتى «عبثي»؛ من ناحية يؤيد تحرر الجزائر، ومن ناحية أخرى يطالب بنظام واحد لأمتين، أي ما يشبه الكونفدرالية، وقد هاجمته أوساط المقاومة واتهمته بالخيانة، هنا العدالة الناقصة المبررة، وهنا بالذات اختلف مع سارتر وسيمون دوبوفوار، وسواهما من المثقفين الذين طالبوا فرنسا بالخروج من الجزائر، ومنح الاستقلال لشعبها، والمفارقة أن سارتر الفرنسي يؤيد تحرر الجزائر، والجزائري كامو يريد اتحاداً فدرالياً... لا بدّ أن يكون قناعاً جديداً للاستعمار.
النقطة السلبية الثانية في «نضالية» كامو، أنه أغفل فلسطين، وإقامة كيان عليها، وتشريد ألوف، وكأنها كانت خارج فكرة العدالة التي يتباهى بها... بل عموماً، تجاهل العرب وثقافتهم وتاريخهم وأدبهم وحضارتهم!
نقول ذلك ونحن نعرف أنه ساند الثورة اليسارية ضد الطاغية فرانكو في الحرب الإسبانية، هذا رائع! لكن الأروع ألا تكون عدالته «استنسابية» وحق الشعوب في التحرر من العبودية استثنائية!
لكنه، مع تجاوز هذه «الهنات» (الوجودية – العبثية)، يبقى كامو الكاتب، والروائي، والمسرحي، المبدع؛ فرواية «الغريب» كانت حدثاً (ترجمت إلى مجمل لغات العالم ومنها العربية)، ليس فقط بلغزية عبثيتها ومستويات قراءتها ودلالاتها، بل ببنيتها الروائية وبلغتها الصارمة، المُجافية للإنشائية والأسلوب الملوّن، وقد شكلت هذه الرواية مفتاحاً لكثير من الكتاب الذين استلهموها، بل قلدوها.
ولا ننسى روايته الكبرى «الطاعون» والتي مع سواها، مهدت لمنحه جائزة نوبل، وكتابه الرائع «السقوط» الذي أحببته أكثر من كل كتبه.
لكن كامو اشتغل في المسرح، ومثل على خشبته، وشارك فرقة مسرحية في نشاطاتها وكتب «العادلون» و«كاليغولا» و«قضية مهمة» (عن دينو بوزاتي)، و«المسكونون» (عن دوستويفسكي)، بيد أن كتاباته المسرحية مليئة بالأفكار المباشرة والوعظية، وبالحوارات الذهنية، خصوصاً «العادلون» برغم أن أهم مسرحياته هي «كاليغولا».
فإذا كان كامو انتصر فكرياً، وفلسفياً، على سارتر، فإن سارتر سجل انتصاراً عليه في المسرح بأعماله «خلف الأبواب الموصدة» و«الذباب».