شكلت الحروفية منطلقَ تأسيسٍ لرؤية عربية خالصة في الفن الحديث والمعاصر، وإن لم يُكتب لهذه الحركة أن تكون مدرسة بالمعنى الذي أريد لها إلا أنها شكلت بوادر جد مهمة نحو الفن المعاصر بالمنطقة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج. حيث أسس الفنانون العرب المعاصرون رؤاهم على العودة إلى التراث الجمالي العربي والإسلامي، بكل تعدده المتقاطع مع كل الثقافات الأصلية التي تتقاسم هذه الجغرافيا من أمازيغية وكردية وفينيقية وآرامية وأفريقية وأشورية وغيرها الكثير.. لهذا فإن الحروفية كتوجه وحركة لا تزال تعرف تجدداً غير منقطع، من حيث الاشتغال والطرح، وتعد تياراً فنياً وجب الكشف عن حجبه حتى نراه في شكله المعاصر، لهذا سنتوقف عند تجربة شكلت محطة الانعطاف برفقة العديدين في بلداننا العربية، عبر تجريب إبدالات تشكيلية مغايرة تروم طرح قضايا ورؤى وتعابير إنسانية في قالب بصري وصباغي حديث ومختلف ومعاصر أيضاً، ويتعلق الأمر بالفنان التشكيلي الإماراتي عبد القادر الريس (69 عاماً)، أحد أهم الأسماء الفنية الحروفية في عالمنا العربي.
فعن تجربة فنية قاربت الخمسة عقود ونيّف من الاشتغال، استطاع خلالها الفنان التشكيلي عبد القادر الريس أن يرسم مساراً فنياً مكنه أن يكون بين الأسماء التي شكلت انعطافاً هاماً، سواء في التشكيل العربي عامة أو على مستوى الاشتغال ضمن تيار الحروفية خاصة. وقد تمّ تتويج هذا الاشتغال بالمعرض الاستعادي الذي أقيم في عاصمة الأنوار باريس، السنة الماضية، 2019. حيث كان لزوار المعرض إمكانية أن يلامسوا عن قرب التطور الجمالي الذي عرفته أعمال هذا الفنان المسكون بالتجديد، منذ تجربته الأولى سنة 1966. فقد تعددت تجاربه من التعبيرية وما بعد-انطباعية والتجريدية المعمارية والصباغة المعمارية، التي سيمزجها بالحروفية لاحقاً، وصولاً إلى تجريدية حروفية خالصة في اشتغال عنوانه «تدوينات غنائية»، حيث إن الحرف لديه يمتزج وتلك الإيقاعات اللونية المتداخلة، وكأني به الفنان الذي يوضب ألوانه وحروفه كما يوضب مؤلف السيمفونيات تحفته الموسيقية. لكن يستبدل النوتات بأحرف متعاليات، عصية عن الإمساك بها في القالب الجاهز والواحد. ما مكنه من أن يمتلك نهجاً خاصاً، مستلهما التراث العربي والمحلي ومدرجاً إياه في اشتغال حداثي تارة ومعاصر تارة أخرى. وذلك عبر أعمال موسومة بـ«ما بعد التأثيرية» القائمة على الاشتغال الصباغي الذي يهتم بكثافة وثقل وحجم اللون في العمل الفني.
ينتمي الريس إلى جيل فناني مرحلة الانعطاف، مرحلة اتسمت بالبحث عن الخروج بالفن العربي من بوتقة السياسي المباشر والخطاب الأيديولوجي الذي يُسقط العمل الفني في خندق الرؤية الواحدة، إلا أن هذا لم يمنعه من أن يجعل من أعماله حقلاً رمزياً غنيا بالدلالات، حيث يتعاطى بشكل تعبيري وإيحائي، مع تلك «الظواهر التي شهدها العالم العربي، سواء من حيث الرسم عن اللاجئين وبيروت أو الانتفاضة الفلسطينية، وغير ذلك من أحداث»، ما يمنحه روحاً مزدهرة بقابلية التأويل في الحاضر وفي المستقبل لما يحمله من أبعاد إنسانية، فالعمل الفني يحيا من حيث إنه قابل للتأويل بشكل دائم.
الأثر الفني لديه إذن هو حقل مغناطيسي يجذب إليه خامات متعددة، تجعل منه مجالاً نشطاً للتأثيرات والتغير المستمر، معتمداً في ذلك على ما يمكن تسميته بـ«التمثيل المجازي»، الذي يروم استحضار الموضوع في قالب رمزي واستعاري، يترك للقارئ الفسحة الكبرى للتأويل وتعدد القراءة.
يعد عبد القادر الريس من المؤسسين للفن الحديث في الوطن العربي، بل شكلت تجربته انعطافاً حاداً نحو رسم أسس الصباغة العربية المعاصرة التي ترجع بالفعل الفني إلى التراث الجمالي، واستحضاره وإعادة تدويره في قالب مغاير، أي بهذا المعنى إعادة تأويله، إذ اشتغاله على الحرف ليس إلا للتعبير عن هويته العربية وثقافته ذات البعد الروحاني الذي يعدّ جزءاً رئيساً في حياته وفي ممارساته الفنية.
هذا ما يجعنا نقول عنه بأنه «فنان ملتزم» تجاه الإنسان والوطن العربي، انطلاقاً من إعادة تشكيل معماره المحلي، معمار الإمارات. مستلهما التراث الذي يعيد إحياءه عبر النفخ فيه «روح التأويل»، المبني على خلق فضاء بصري يجرده من كل مباشرة وكل قراءة مسبقة. وإلى جانب أن أعماله قد شكلت انعطافاً حاداً في الممارسة التشكيلية العربية، فإنها قد جمعت بين طياتها اشتغالات متعددة قد ساهمت في التأسيس «لما بعد-انطباعية» عربية مهدت إلى ولوج عوالم الفن المعاصر.