عاطف عبدالله (أبوظبي)
لاتزال سلاسل التوريد العالمية تعاني من مستويات نقص غير مسبوقة، بدءاً من المواد الخام مروراً بالسلع الغذائية، وصولاً إلى السيارات، نتيجة جائحة كوفيد- 19.
ورغم التحسن الطفيف الذي مس بعض جوانبها خلال 2021، يواجه الموردون والمستهلكون حول العالم تأخيراً في عمليات التسليم وزيادات في أسعار العديد من السلع، مع دخول الجائحة عامها الثالث.
بجانب متحورات فيروس كورونا، ألقت مشكلة استمرار الاختناقات في سلاسل التوريد التصنيعية بظلالها على الاقتصاد العالمي، حيث أدت إلى زيادة الضغوط التضخمية في وقت تكافح فيه البنوك المركزية لكبح جماح التضخم.
ترجع اضطرابات سلاسل التوريد إلى أوائل عام 2020 خلال المراحل الأولى للجائحة، حيث تضررت المصانع في أجزاء من العالم جراء تفشي فيروس كورونا بشدة في مراكز التصنيع الكبرى بأماكن مثل الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وفيتنام، وعمالقة الصناعة الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا.
وتم على إثر ذلك إغلاق العديد من المصانع وتراجع الإنتاج بسبب الإغلاقات التي تمت أو إصابات العمال، فيما خفضت شركات الشحن جداولها تحسباً لانخفاض الطلب على نقل البضائع حول العالم.
والجائحة تسببت أيضاً بخلل في هيكل الإنتاج العالمي التقليدي، حيث أدت إلى الضغط على منتجات لم يكن هناك إقبال كبير عليها، وفي الوقت نفسه عطلت الخدمات والمنتجات التي كانت تواجه ضغطاً في الظروف العادية.
وتعرض الطلب على بعض الأشياء التي كانت تشهد رواجاً في المعتاد، مثل وجبات المطاعم والرحلات وأنشطة السياحة وخدمات المنتجعات الصحية، لتراجع شديد، وفي المقابل، تم توجيه الأموال إلى شراء سلع منزلية وفقاً لمتطلبات البقاء في المنازل والعمل والتعليم عن بُعد.
سمات عصر العولمة
وتعني سلاسل التوريد تدفق السلع والبيانات والأموال المتعلقة بمنتجات أو خدمات، بدءًا من شراء المواد الخام وحتى تسليم المنتج إلى المستخدم النهائي.
وتعتبر سلاسل التوريد إحدى السمات المميزة لعصر العولمة والمعتمدة على مجموعة معقدة من روابط سلاسل القيمة العالمية، التي تربط المنتجين عبر بلدان متعددة، وغالبا ما يستخدم المنتجون سلعا وسيطة، سواء كانت موادَّ خاماً أو سلعاً عالية التخصص أو مدخلات ينتجها موردون خارجيون، لتطوير المنتج للوصول به إلى شكله النهائي.
على سبيل المثال قد يتطلب جهاز الكمبيوتر الذي يتم تجميعه في الصين مثلاً إلى رقائق إلكترونية مصنوعة في تايوان، وشاشة عرض مسطحة من كوريا الجنوبية، وعشرات الأجهزة الإلكترونية الأخرى المأخوذة من جميع أنحاء العالم، فضلاً عن الحاجة إلى مواد معدنية متخصصة من أجزاء أخرى من الصين أو أوروبا، وأي نقص في أي من هذه المكونات قد يؤدي إلى تعطل الإنتاج.
أسعار الشحن
على الجانب الآخر، أدى ارتفاع أسعار الشحن لأعلى مستوياتها منذ سنوات عدّة إلى تفاقم مشكلة سلاسل التوريد، حيث قفز السعر الحالي لشحن حاوية نمطية سعة 40 قدماً من الصين إلى الولايات المتحدة 348% مقارنة بمتوسط السعر قبل الجائحة، حسب تقرير منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد).
وحذرت المنظمة من أن ارتفاع سعر الشحن البحري سيؤدي إلى زيادة 1.5% في أسعار المستهلكين العالمية في 2023، مع احتمال أن تكون البلدان الأصغر حجماً المعتمدة على التجارة هي الأكثر معاناة.
كما تشهد بعض المنتجات الاستهلاكية المتجهة إلى أميركا الشمالية وأوروبا من آسيا، مثل أجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات والمنتجات البصرية، زيادة في الأسعار أعلى من غيرها، ويمكن أن يشهد المستهلكون زيادة 10% في أسعار سلع مستوردة منخفضة القيمة المضافة كالأثاث والمنسوجات والملابس والسلع الجلدية، حسب التقرير.
في المقابل، زادت أيضا أسعار الشحن الجوي إلى 14 دولارا للكيلو على خط شنغهاي الولايات المتحدة في ديسمبر الماضي ارتفاعاً من 8 دولارات بنهاية أغسطس، وهو أعلى من الرقم القياسي السابق البالغ 12 دولاراً، والمسجل عندما ضرب كورونا سلاسل التوريد لأول مرة بداية العام الأسبق.
وحسب بيانات الاتحاد الدولي للنقل الجوي «إياتا»، ارتفع إجمالي الشحنات المنقولة جواً بنحو 8.7% خلال الفترة من أغسطس إلى أكتوبر 2021، مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2019.
وخلص تقرير أعدته مؤسسة سي انتليجنس الاستشارية للبيانات البحرية إلى أن أسعار الشحن البحري، التي أضرت بالمصنّعين والتجار على حدٍّ سواء، قد تستغرق أكثر من عامين للعودة إلى المستويات الطبيعية.
بموازاة ذلك، حذر تقرير لغرفة الملاحة الدولية من أن اضطرابات سلاسل التوريد الحالية ستكون عواقبها أشد قسوة على الاقتصاد العالمي، مقارنة بما حدث في النصف الأول من العام الأسبق، عندما بدأ الوباء في التفشي عالميا، فعندما اجتاح الوباء أوروبا والولايات المتحدة والاقتصادات الناشئة، كان لدى الحكومات والشركات مخزون احتياطي من جميع أنواع السلع تقريبا، واستخدم جزء كبير من هذا المخزون لمد الأسواق باحتياجاتها، والتغلب عن الاضطرابات، التي حدثت في عمليات الشحن والتوقف المفاجئ للمصانع في الصين وآسيا عن الإنتاج، وعلى الرغم من ذلك كان هناك أرفف فارغة في كثير من المحال التجارية في الاقتصادات المتقدمة.
تحديات للنمو العالمي
ألقت مشكلة سلاسل التوريد بظلال قاتمة على الاقتصاد العالمي وقد تحد من قدرته على التعافي من الجائحة، بحسب تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية الصادر عن البنك الدولي.
البنك حذّر من أن معوقات سلاسل التوريد وتفكيك برامج التحفيز، مع أقوى تضخم في فترة ما بعد الركود منذ 80 عاما، تشكل مخاطر.
وفي آخر توقعاته، قلص البنك الدولي توقعاته للنمو العالمي إلى 4.1% هذا العام، من 5.5% في 2021.
وكان التراجع في النصف الثاني من عام 2021 أكبر بالفعل مما اعتقده البنك في توقعاته لشهر يونيو، بسبب انتشار متحوري أوميكرون ودلتا. ويتوقع «تراجعا واضحا» هذا العام، وكذلك تراجع النمو العالمي أكثر في عام 2023، إلى 3.2%.
من جانبه، قال تقرير لصندوق النقد الدولي إن التعافي العالمي المستمر يواجه تحديات متعددة، منها الانتشار السريع لسلالة «أوميكرون» الذي تسبب في عودة كثير من البلدان إلى فرض القيود على الحركة وأسفر عن زيادة نقص العمالة وتراجع الإنتاج.
ويرى أحدث تقرير للصندوق أن انقطاعات سلاسل الإمداد لا تزال تلقي عبئا على الأنشطة وتسهم في رفع معدلات التضخم، مما يزيد من الضغوط الناجمة عن قوة الطلب وارتفاع أسعار الطاقة.
الظواهر المناخية
بخلاف الجائحة، وما سببته من تقليص المعروض من السلع والبضائع، تواجه سلاسل التوريد تحدياً أكثر استدامة، ألا وهو تغير المناخ، الذي أدى إلى حدوث أعاصير وفيضانات عطلت مرافق الإنتاج وألحقت أضراراً بقطاع الزراعة في أماكن متفرقة حول العالم.
وقالت وكالة «بلومبرج» للأنباء إن التجارة العالمية تكافح للتعامل مع ما هو أكثر بكثير من مجرد أزمة صحية، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، من المرجح أن تكون الطبيعة هي العامل الأكثر قوة وعشوائية وتكراراً في إثارة الاضطرابات الاقتصادية.
يمكن للشركات اتباع خطوة أولى لمكافحة آثار الظواهر المناخية المتطرفة، والتي تتمثل في تحديد أو رسم خريطة سلاسل التوريد الخاصة، لكي تفهم بشكل أفضل أين تكمن المخاطر بالضبط، سواء كان ذلك مورّداً عرضة للأعاصير على ساحل الخليج الأميركي، أو مركز نقل معرضاً للفيضانات.
ونبهت إلى أن السياسات الحكومية المصممة لمكافحة تغير المناخ، ربما تؤدي إلى خلق تكاليف إضافية على المدى القصير، بما فيها التشريعات، والتي تتطلب من الشركات تنفيذ المساعي اللازمة لحماية البيئة على مدى سلاسل الإمداد الخاصة بها.
ومن المرجح أن تحتاج سلاسل التوريد العالمية إلى استثمارات بقيمة 100 تريليون دولار للوصول إلى هدف انبعاثات كربونية صفرية صافية على مدى العقود الثلاثة المقبلة، وفق تقرير صادر عن كل من إتش إس بي سي هولدينجز ومجموعة بوسطن كونسالتينج جروب.
ومن الممكن أن تتسبب المساعي الحثيثة للحد من انبعاثات غازات الدفيئة في اضطرابات غير متوقعة. ويمكن النظر إلى الصين قبل بضعة أشهر باعتبارها مثالاً على ذلك، حيث أدى إغلاق محطات الفحم إلى أزمة طاقة، أجبرت المصانع على إغلاق أو تقليص جداولها الزمنية.