منذ عرفنا العالم وأدركنا أنفسنا وأصبح لدينا مخزن للذكريات، ومخازن للمحبة والعطاء، كنا على يقين بأن ما يزرعه «أهالينا» فينا من الاحترام، وإيثار الغير والنأي عن التكبر والأنانية، أيقنا أن الحياة ستكون جمالاً قد لا نحتمله في يومٍ من الأيام، كانوا عندما يدفنون جدر الهريس و«يكمرونه بايلواني» ويهيلون عليه التراب ننتظر العصر الذي ينقبون فيه عن ذات القدر، فيجتمع الرجال حول حفرة يملؤها الرماد ويتطاير منها الدخان ورائحة الهريس الذي يقال عنه مُبخر، إذا قل فيه المروق (الماء) وضربت رائحة الحب (حبوب القمح) واللحم المحترق في المزيج. نحن الأطفال لم نكن نهتم بالهريس بل بالعظام التي كانوا يخرجونها قبل ضرب الهريس بالمصدام (المضرب). نسمع الرجال يشجعون بعضهم البعض وهم يجلدون الهريس، لتدخل حبوب القمح في مكونات اللحم ويتمايط المخرج النهائي. سواعد رجال شدوا حبال الغوص وآخرون وضعوا الحابول حول خصورهم، وسحبوا أجسادهم إلى أعالي النخيل لجني الرطب الذي يعدونه بطرقٍ عديدة، ليصبح «سح» يفك صومهم ويغذيهم أينما كانوا.
في ليلة رمضان الأولى وَدَنَّا الحب عند الساعة الثالثة صباحاً، وبدأنا بطبخ الهريس عند الساعة التاسعة، لاشيء تحت الأرض كل شيء كان على نارٍ هادئة وتناوب ثلاثة رجال على تقليب محتوى القدر الذي تركناه وشأنه عندما سمعنا أذان الظهر. عدنا إلى الهريس فجلب الشباب الثلاثة آلة من تصميم الطيار محمد بالخير، وهي عبارة عن حامل لأداة حفر الجدران يوضع فوق القدر، ليدير مجاديف تقلب الحب واللحم الذي يترابط ويتمازج بقوة دفع أحصنة كهربائية. تناوب الشباب حول من يمسك بتلك الآلة وهي تدور، فالجميع متهالك من الصوم الذي لم يتأقلموا معه لاسيما في يومه الأول. فجأة وجدنا شخصين من جنسيتين مختلفتين يقتربان من موقعنا قال أحدهما: «السلام عليكم ومبارك عليكم الشهر الفضيل.. دعونا نساعدكم.. حتى يتساوى الأجر» رحبنا بهما فالسماحة تنطق من وجهيهما. دخل الرجلان حلبة ضرب الهريس وتناوبوا مع الآخرين في التقليب والإعداد والتقديم. بعد صلاة العصر ذهبت للمشي حول حديقة فريجنا فإذا بـ «ساتول» من الطوس والملال والمواعين ذات العرو وذات الذنين والطبقات والحرارات وغيرها من الأوعية قد اتخذت دوراً في طابور الهريس، بينما تلاشت أطياف أصحابها في صفوف المصلين. عندما عدت من المشي وجدت خلية نحلٍ أمام بيتنا ملكتها والدتي التي غيبها الموت قبل تسعة عشر عاماً وبقي ما تعلمناه منها عرفاً نخجل أن نحيد عنه.
للعارفين أقول: علموا أولادكم حب الغير واحترامه لأن «الحب يطالع على بذره»، ولأن صوراً في ذاكرتنا تجعلنا أكثر أرتباطاً بقيمنا وديننا ولهجتنا وثقافتنا التي هي ناتج التجانس والتلاحم الذي نلمسه من المجتمع. هذا هو المجتمع الذي نشأ عليه المؤسس الباني وعزز قيمه ومبادئه في نفوس أبنائه وهكذا تشربنا العطاء من ثقافتنا وهويتنا التي تحث على التعاون والتعاضد والإنسانية أكثر من أي شيء آخر، فمن الماضي يقتبس الحاضر بناء المستقبل. مبارك عليكم الشهر الفضيل.