لأنّ السينما بحدّ ذاتها تظلّ فعلاً تنويريّاً، فمن الأهميّة بمكان أن تكون هناك أفلام موجّهة للطفل، تحاول أن ترشده وتوسّع له من مساحات الفرح، ولا بأس من أن تصوّر له مآلات ما عاشه أو يعيشه العالم من دمار وفقر وحروب، لتجنيب هذا الجيل ما قد عاصره الجيل السابق، وفي ذلك قصديّة نبيلة لإذاعة الفرح والعمل والبناء، ولكن بأسلوب متخصص ذهني وجمالي، تنهض به السينما أو «الفن السابع» بما فيه من عبقريّةٍ في التصوّر وفنيّةٍ في المعالجة وهدف جمالي نحو الإمتاع.
في هذا التحقيق يحاول «الاتحاد الثقافي» أن يتلمّس آراء نقّاد وباحثين وفنانين، للوقوف على القيمة التربويّة والهدف الجماليّ ودور الدول في استثمار السينما، ليس فقط لبثّ التسامح والحب والوئام، وإنّما نحو انتقاءات مدروسة، خصوصاً ونحن ما نزال نعيش ثِيَم اللجوء وأفكار الحروب ومواضيع الدمار والحرمان والقتل، وفي كلّ ذلك يعيش الطفل أو يتعايش، عنصراً فاعلاً ومادّة ناجحة في الترويج السينمائي، فهل من أفكار جديدة يمكن الاشتغال عليها نحو عالم يملؤه الفرح الذي يستند على بساطة الحياة البشريّة واللقطات غير الملتفت إليها في هذه الحياة؟!
بداية تؤكّد الشيخة جواهر بنت عبد الله القاسمي، مدير مؤسسة «فن»، مدير مهرجان الشارقة السينمائي للأطفال والشباب، أهميّة خلق منصّة فنيّة ملهمة تدعو لرؤية الحياة من خلال عيون الأطفال والشباب، لفهم احتياجاتهم ومتطلباتهم، خصوصاً وأنّ هناك العديد من المسؤوليّات التي تقع على صانعي الأفلام بشكلٍ عام، والموجّهة للأطفال والشباب بصفة خاصّة، انطلاقاً من أنّ هذه النوعيّة من الأفلام تمتلك قوّةً ومدى كبير في التأثير على هذه الفئة ليكونوا مواطنين صالحين ومنتجين، وهو ما يساعدهم لكي يشقّوا طريقهم نحو المستقبل، خصوصاً وأنّ مؤسسة «فن» تنظّم مهرجان الشارقة السينمائي الدولي للأطفال والشباب من أجل هؤلاء، كونه المشروع الفنّي الأول من نوعه في المنطقة، ولذلك فإنّ المسؤوليات الملقاة على عاتق صانعي الأفلام الموجّهة للطفل، كما أكّدت مديرة مؤسسة «فن»، هي مسؤوليات كبيرة جداً، وتتمثل في تحسين المحتوى المقدّم لهم، واكتشاف مواهبهم وتنميتها وتشجيعها، وتعزيز سينما الطفل والشباب في العالم، وخلق جيل جديد من المواهب الإبداعية.
وترى أنّ الاعتراف بالتميّز في صناعة سينما الطفل والشباب والاحتفاء بالمخرجين المبدعين عن طريق توفير بيئة محفزة للموهوبين من الأطفال والشباب لتشجيعهم على إنتاج أفلام تعبر عنهم، هو أمرٌ مهم جداً علينا جميعاً تأكيده والنهوض به من خلال هذا المهرجان.
سلاح ضد «التطرف»
ويعتبر الناقد السينمائي طارق الشناوي، أستاذ مادة النقد الفني في كلية الإعلام جامعة القاهرة، والأكاديمية الدولية لعلوم الإعلام، أن الطفل هو أهم العناصر الحيوية في البلاد العربية، إذ يقول «أعتبر الطفل أيضاً أكثر شخص مظلوم في الإعلام والسينما، لأننا نعتقد أن مقدّم برامج الأطفال، أو صانعي الأفلام الخاصة بالطفل، هم الأضعف في حلقة صناعة السينما، وهذا غير صحيح على الإطلاق».
ويؤكد الشناوي أنه إذا أردنا ضمان سعادة أُمَّة، فعلينا أن نبدأ من الطفل، وعلى جميع المهتمين بصناعة المحتوى الموجّه للطفل أن يبدأوا بزرع مجموعة من القيم أهمها التسامح وتقبل الآخر ثقافياً، ودينياً، وسياسياً، لأن الآخر أيضاً عليه أن يتقبلك، ويستدرك الشناوي «ولكنْ، مع الأسف لم نكن لنربي أطفالنا على هذه المبادئ السامية، والتي تنص عليها كل الأديان».
ويشدد الشناوي على أهمية السينما في ظل الاستقطاب الذي تشهده الدول العربية، مؤكداً دورها في تحصين الأطفال ضد التطرف، الذي يُعتبر أقوى مرض اجتماعي، مع الأخذ بالاعتبار أنَّ تأثير هذه النوعية من الأمراض يدوم أكثر من الأمراض العضوية، ويصعب بالتالي علاجها.
الرهان على الطفل
من جانبها تقول الممثلة الإماراتية الشابة فاطمة الطائي، إن الأطفال والشباب يتطلعون إلى إيصال صوتهم من خلال السينما، مضيفة «أنا أؤمن بالطفل وقدرته على التطوير، ودولة الإمارات لديها القدرة أيضاً على خلق جيل من السينمائيين المحترفين الذين يؤسسون للقيم التي تتبناها الدولة والحكومة الرشيدة».
وتتفق الطائي مع الشناوي، في أن التسامح يأتي على رأس مجموعة القيم التي يهدف صناع سينما الأطفال إلى غرسها، مشيرةً إلى أنّ دولة الإمارات تتميز بأنها غنية بالعنصر المتعلم، والمتسلح بالتكنولوجيا، وعليه فإن صُنّاع السينما يجب أن يلتزموا بمواصلة الجهد لرفع مستوى الأفلام، وتطوير مهارات الأطفال.
وتوضح أنَّ هناك قائمة طويلة من المسؤوليات على صنّاع سينما الأطفال، حيث إنّ جمهور الطفل من الصعب إرضاؤه، وبالتالي فإن مسؤولية اختيار العمل وتنفيذه بالشكل الذي يرضي هذا الجمهور صعبة جداً، بالإضافة إلى غرس قيمة أو توصيل رسالة من خلال العمل السينمائي، مضيفة أن الطفل متابع جيد للصور المتحركة التي تُعرض أمامه وهو جمهور ذكي، ويستوعب ما يقدّم له من رسائل.
مكانة عالمية للدولة
وتعتبر الفنانة المصرية شيري عادل أنَّ دولة الإمارات رائدة في صناعة السينما الموجهة للأطفال، مشيدة بدور مهرجان الشارقة السينمائي الدولي للأطفال والشباب، الذي يعطي فرصة للأطفال لأن يصنعوا الأفلام بأنفسهم، وهو ما يُتيح أن نفهم متطلبات هذا الجيل أكثر، مؤكدة أن الأطفال الآن مختلفون تماماً عن الماضي، وهم منفتحون على العالم بشكل أكبر من خلال هواتفهم، الأمر الذي يضيف مسؤولية أكبر على صناع السينما.
وترى شيري عادل أنَّ الفن يُهذب الأطفال ويدعم عدة قيم أساسية يجب أن نُربي عليها النشء في مجتمعاتنا العربية، وهي: العطاء، وحب الخير، وتقبل الآخر، مشيرة إلى أن الذي يميز دولة الإمارات هو وجود أكثر من 200 جنسية على أرضها، وهو ما يدعم في الأساس هذه القيم، ويسهّل على صناع السينما السير على هذا النهج.
الوعي والجمال
ويرى الناقد السينمائي الأردني ناجح حسن أنّ الوصول إلى ذهن الطفل وقلبه يتطلّب الاهتمام بالنواحي الجماليّة، رغم وجود رسالة توعويّة، تحرّض الطفل على اتباع أساليب منهجيّة في العيش اليومي وفي التعامل مع الآخرين، مؤكّداً أنّ الناحية الجماليّة تظلّ عالقةً في ذهن الطفل وخياله وتساعد على الإدراك وتكريس هذا التوجيه، وتزيد من فهمه وهضمه لذلك، خصوصاً وأنّ الطفل لم يكن بعد قد استكمل أدواته في اللغة اليوميّة.
ويقول إنّ صناعة أفلام الطفل، وللأسف، هي صناعة قليلة ونادرة، إن لم تكن شبه معدومة، وهذا يعود إلى أسس وقواعد العرض السائدة في المجتمعات العربيّة، لأنّ السينما تتوجّه دائماً نحو الفتيان والشباب، وتقدّم لهم كثيراً من أفلام المغامرة والكوميديا الرومانسيّة والعاطفيّة، ويظل يغيب عنها توجّه تلك الشريحة المهمّة من حياة المجتمع التي يقع عليها مستقبل المجتمع، وهو الطفل. فالطفل يحتاج إلى خبرة ودراية في الصناعة الموجّهة، وهذا ما نجده في السينما العالمية، بعكس ما هو موجود في السينمات العربية، لأنّ إنجازات مثل هذه السينما تتطلّب الكثير من الفهم في الخيال العلمي والجمالي والمشهدي، مثلما تحتاج إلى صنّاع أفلام دقيقين ومتمرّسين وخبراء وإلى عمل جماعي، في حين أننا في الوطن العربي نلجأ دائماً نحو الطرق الأسهل التي تخاطب الصورة فقط، دون الاهتمام بذهنيّة الطفل أو جوّانيّته.
نافذة احترافية
ولذلك، فإنّ حشد الشارقة لكلّ هذه النخب في مهرجان متخصص، يؤكّد اتساع الرؤية بأنّ مثل هذا النوع من النشاطات أو المهرجانات السينمائيّة إنّما يمثّل نافذةً يوميّةً يطلّ منها الطفل العربي على نماذج احترافيّة في صناعة الأفلام، فكثير من الدول العربيّة التي تتواجد فيها مهرجانات السينما أخذت تهيّئ ركناً مهمّاً في هذه المهرجانات لأفلام الأطفال.
ويجيء مهرجان الشارقة الدولي للأطفال والشباب لهذا الهدف بما يشتمل عليه من ورش وندوات تثقيف وتنشيط لذهنية الطفل والشباب والقائمين على هذه الصناعة، وذلك نحو صنع أفلام بسيطة ننمّي بها الوعي والذائقة السينمائيّة لدى الطفولة في محاولة فهم الفيلم، وأيضاً خوض غمار هذا النوع من الصناعة الثقافية.
ويحبّذ الناقد حسن أن يخصص كلّ مهرجان، وفي كلّ دورة من دوراته، ما هو منسجم مع كلّ فئة عمريّة معيّنة بمحتوى مناسب، فهناك أطفال في المدارس الابتدائيّة، وهناك من هم في المدرسة الإعدادية، ومن المهم تمثيل الفتيان والشباب، ولذلك فإنّ مهرجان الشارقة الدولي للأطفال والشباب يمتاز بتنوّعه وشموله وكثرة نشاطاته ونوعيّتها واختيارات الأفلام المناسبة للحضور أو الجمهور المتلقي بطبيعة الحال.
معايير إنسانيّة
لكن، ما هي القيمة المعياريّة لأفلام الطفل إنسانيّاً، بمعنى هل هي أفلام أجنبيّة أم آسيويّة أم إفريقيّة أم عربيّة؟!.. وما هي الخلطة المناسبة لأن تلبّي رغبة فئة المهرجان المستهدفة في الأطفال والشباب لتوسيع هذه الفسحة الإبداعيّة من التفكير الإيجابي والطاقة الثريّة في هذا المجال؟!
يعتقد حسن أنّ الكثير من صنّاع أفلام الطفل والشباب سواءً في العالم أو في مؤسسات صناعة أفلام الطفل الراسخة في هوليوود مثلاً وفي اليابان والصين، أخذت تعمل على مجموعة من الأفلام تلبي معايير قد يفهمها الطفل في كثير من الثقافات، سواء كانت الثقافة الغربيّة أو الشرقيّة، وذلك على مبدأ عناق الثقافات.
فالكثير من الأفلام المنجزة في العالم قد تلبي رغبات الطفولة في منطقتنا في الشرق الأوسط وتتماهى معها، لنرى مثلاً أفلاماً موجّهة للطفولة وأيضاً من التقنيات الحديثة التي تبهج خيال الطفل من رسوم وخيال علمي وتتحدث عن الفضاء والغابات وعن الأسس السليمة في العيش داخل الأسرة الواحدة، وهذا كلّه أخذ يساعد على إقامة نوع من التوازن والتبادل الثقافي بين القارات.
وحول سينما الطفل بالذات، يرى حسن أنّ هذه السينما تحديداً باتت تحقق أعلى الإيرادات في العالم والتي تأتي من أميركا، لأنّ كثيراً من السينما الهوليوودية أصبحت تتجه نحو سينما الطفولة، ولأنّها باتت تحقق نجاحات مهمّة على صعيد شبّاك التذاكر، بينما نحن في الوطن العربي وللأسف ما تزال السينما العربيّة لدينا محدودة الانتشار بحكم قواعد التوزيع والعرض السائد، فتظل حبيسة أوطانها، ولكنّ ذلك لا يمنع من وجود بعض صنّاع الأفلام الذين يتوجّب عليهم صناعة أفلام تخاطب الجيل الجديد والنشء المبشّر في مجتمعاتهم، بدعم هذه الأفلام وتمويلها من مؤسسات القطاعين العام والخاص على السواء.