نرمين يسر
لا يزال «الأستاذ» نجيب محفوظ قادراً على إثارة الجدل. يتتبع الجميع آثاره وإن كانت رأياً أو جملة عابرة، يفتشون في سجله بحثاً عن جديد، وكأن الرجل الذي دامت حياته أكثر من تسعين عاماً يجب أن يظل مُدهشاً في كل ثانية قضاها بيننا، يعلّم حرافيشه المُتبقين أنه صار بعيداً عن الرد بلسانه فتولوا هم هذه المسألة، فيبقى محفوظ، رمز الأدب العربي في المخيلة العالمية، حياً بلا جسد، أو كما قال الراحل محمود درويش «ولو كان حياً لما صار أسطورة». لم يكن محفوظ جباناً أو متخوفاً من السلطة أو المجتمع أو حتى الأديان، كان يُبدع حتى عندما صار رقيباً.
في أحد أيام العام 1947 أرسل المخرج صلاح أبو سيف مرسالاً إلى محفوظ عن طريق أحد أصدقائه، طالباً منه التعاون في عمل سينمائي مشترك. قال محفوظ وقتها إنه لا يعرف أشخاصاً يكتبون السيناريو. كان وقتها فقط يتابع السينما دون الخوض في تفاصيلها، وهو كعامة المشاهدين اعتاد أن ينسب الفيلم لمخرجه فقط.
رغم ذلك قابل أبو سيف الأديب الكبير، وفي تلك الجلسة استطاع إقناعه أن يتعاون معه في كتابة سيناريو فيلم «مغامرات عنتر وعبلة». كان ما دفع أبو سيف لذلك الاختيار أولى كتابات محفوظ «عبث الأقدار»، والتي لاحظ فيها أنه أي محفوظ يكتب بسرد تفصيلي يعبّر عن الصورة، فرأى أن هذا يُتيح الفرصة لاستغلال ذلك في كتابة نص يصلح للشاشة. وبينما لم تكن لدى محفوظ أدنى فكرة عن كتابة السيناريو، ساعده أبو سيف كي يخطو الخطوة الأولى في ذلك العالم، والتي استمرت لتصنع ألف ميل من الإبداع.
كتب محفوظ للسينما 25 سيناريو، لا نزال نتذكرها حتى يومنا هذا. كانت أعماله التي خاض أولها بدافع التجريب قد صارت علامات في تاريخ السينما المصرية. اتسم بالعمق في الأفكار، لكنه كذلك عُرف ببساطته في الطرح، وبهذا استطاع تقديم المجتمع المصري بكل مكوناته وتفاصيله وتعقيداته.
التقى محفوظ في أروقة السينما عبقري آخر هو يوسف شاهين، جمعتهما حكاية مصعد كان «بين السما والأرض»، جعلا الجمهور يندمج مع أرواح 15 شخصاً تعلّقت في ذلك المكان الضيّق وهم مثقلين بحكاياتهم وشخوصهم المتنوعة. رأيناهم يترقبون هدفاً واحداً هو إنقاذهم. كانوا من طبقات اجتماعية مختلفة، وشخصياتهم تنطوي على انتظار مترقب لتغيير حياتهم.
تقابل شاهين ومحفوظ مرة أخرى حين ظهر «الاختيار» بشخوص رسمها شاهين بغرائبية طباعهم مع الإثارة التي تدور حولها حكاياتهم، وغيرها من الأفلام الناجحة على المستوى الفني والإبداعي، بل والجماهيري كذلك.
عمق سياسة
تنوعت مراحل محفوظ السينمائية، بين مرحلة الثورة الاجتماعية والنقمة على الأحوال السياسية، بالإضافة إلى المرحلة الفلسفية التي قدم فيها الأفلام ذات الطابع الوجودي.
ظهرت جُرأة محفوظ في عدة أفلام تطرح مشاكل الفساد، ففي العام 1975 كان فيلم «المذنبون» من إخراج سعيد مرزوق وقد تم منعه من العرض على القنوات المصرية وفيه يكشف عن قضايا فساد جمّة، تلك التي ظهرت بعد مقتل الممثلة سناء (سهير رمزي).
«أنا ماعرفهاش يا سعادة البيه، كل اللي بينا كان علاقة جنسية»، جاءت الجملة على لسان ممدوح فريد (قام بدوره الفنان عادل أدهم). هذا الفيلم يُصنّف من أفلام النقد الاجتماعي الذي يُبرز الفساد من خلال جريمة سببها الجنس، فبدا باعتباره الفعل الأساسي الذي تتفرع منه كل الجرائم.
تضيق دائرة الشك حول كل من له علاقة بالضحية، لنكتشف عبر التحقيقات أن الجميع مذنب، وأن كل شخوص العمل كانوا وقت وقوع الجريمة يرتكبون جريمتهم الخاصة، وليبدو لنا واضحاً أننا نعيش في قلب الفساد، فهذا ناظر مدرسة كانت حجة غيابه عن مسرح الجريمة مُشينة، حيث يقوم بتسريب الامتحانات، والآخر مدير الجمعية الاستهلاكية يقوم بتهريب السلع المدعمة للشعب كي يبيعها في السوق السوداء، والطبيب كان يقوم بعملية إجهاض سيّدة حملت سفاحاً، وتأتي الصدمة حين نعرف أن قاتل الممثلة هو خطيبها المصاب بالعجز الجنسي وفقدان الثقة بالنفس، ما دفعها للدخول في علاقات متعددة.
لم يخش محفوظ أيضاً سياسات الدولة. أراد أن ينطلق بأقصى ماهو متاح من حرية، بعدما قضى عشر سنوات من حياته في منصب رقيب المصنفات، الرجل الذي يحذف بعض الفقرات من نصوصه السينمائية الخاصة باعتباره يحافظ على الكيان الفني من الانحدار والفتن الطائفية.
بحر فلسفة
من الأعمال الوجودية والفلسفية التي تُظهر واقع كل شخص ومكنونات نفسه، والتي برع فيها محفوظ أيضاً، يبرز فيلم «الاختيار» 1971 من إخراج يوسف شاهين. الفيلم الذي يحصل على الرقم 53 من بين أفضل مائة فيلم في السينما المصرية، خاض فيه محفوظ مع شاهين بمدرسة العبث والتجريب، وذلك بمناقشة الفصام الذي أصاب معظم جيل السبعينيات المتخبط، وازدواجية المثقف التي عبّر عنها من خلال التوأمين: البحّار المنطلق والكاتب المتزن. تغوص قصة الفيلم داخل النفس البشرية التي تبدو على السطح هادئة لكنها تُخفي بركاناً على وشك الانفجار داخلها، وكانت هذه البراكين هي ما تُعبّر عن رفض الشباب للعادات والتقاليد والخضوع للأعراف الاجتماعية واستبدالها بحياة بوهيمية مُنطلقة.
تأتي شخصيات الفيلم الرئيسية «سيّد» وتوأمه «محمود»، اللذان يُمثّلان الخير والشر، الرزانة والحرية. سيّد كاتب مسرحي وروائي مشهور (عزت العلايلي) وشقيقه التوأم محمود الساكن في ماخور «بهية» (ميمي شكيب)، الذي يعمل بحّاراً حراً ويسافر منطلقًا في كل مكان. ويتضح أن الكاتب المثقف الأهم في البلاد هو من قتل توأمه
غيرةً وحقداً على حياته التي لم يستطع أن يحيا مثلها يوماً. هناك أيضًا فيلم «الفتوة» 1957، حيث يتجلى فيه الصراع الظاهري. الفيلم يسرد حكاية شعبية تدور في سوق الخضار والفاكهة بين مجموعة من التجار، ولكن الصراع الحقيقي في الفيلم هو صراع طبقي رأسمالي بين أصحاب النفوذ والسلطة وبين الشعب.
اختبارات اجتماعية
تناول محفوظ كذلك أفكاراً اجتماعية مأخوذة من قصص أدباء آخرين، أبرزهم إحسان عبدالقدوس في ثلاث تجارب هامة هي: «أنا حرة» و«الطريق المسدود» و«إمبراطورية ميم».
ففي فيلم «أنا حرة» 1959 من إخراج صلاح أبو سيف، المأخوذ عن قصة إحسان عبدالقدوس، يتناول محفوظ ثورة نسائية مُتمثلة في شخصية «أمينة» المتمردة وصعبة المراس، والتي تُعاني طيلة الوقت من تسلط عمتها وزوجها والتدخل الشديد في جميع تفاصيل حياتها. تنقلب الفتاة على عائلتها رافضة الوصاية غير الرشيدة ومتطلعة لبناء مستقبلها بنفسها والذي سوف تملأه الحرية والاعتماد على الذات، مثلما فعلت «فايزة» في فيلم «الطريق المسدود» 1958 عندما قررت أن تستجيب للضغوط الاجتماعية التي حاصرتها وأجبرتها على التخلي عن مبادئها جزئياً حتى يتسع الوقت وتتناسب الظروف المحيطة للتمسك بمبادئها الثورية في مجتمع ذكوري متعصب. بالمثل فعل أبناء منى في فيلم «إمبراطورية ميم» 1972 بقيامهم بثورة داخل منزل العائلة على السلطة الأبوية المتمثلة في والدتهم المسؤولة عن التربية والتعليم. ففي هذا الفيلم بشكل خاص نجح محفوظ في تحويل قصة قصيرة بطلها رجل على المعاش يثور ضده ابنه الأصغر إلى فيلم طويل بطلته امرأة تعمل بمهنة تخص الأسرة والشباب، والتي قامت بدورها فاتن حمامة.
أثبت نجيب محفوظ، أنه لم يكن فقط حالة استثنائية ومختلفة في تاريخ الرواية العربية، لكنه كان أيضاً صاحب إسهام مُغاير وغير تقليدي في مجال كتابة السيناريو طوال أكثر من ثلاثين عاماً، استحق معها أن يُصبح حقلاً واسعاً لدراسة مختلف أشكال الكتابة، سواء التي تعتمد على الكلمة أو الصورة.
ظهرت قدرات محفوظ كذلك في فيلم «ريا وسكينة»، الذي كتب له السيناريو وتعاون معه في الحوار السيد بدير، وهو كذلك من إخراج صلاح أبو سيف وإنتاج نجيب رمسيس، يعد الفيلم التعاون الرابع بين محفوظ وأبو سيف في عام 1953 بعد أفلام «عنتر وعبلة» و«لك يوم يا ظالم» و«المنتقم»، كان الفيلم فكرة أبو سيف بعد أن عرف نقطة هامة في حياة محفوظ، وهي أن الأخير كان مُتابعاً جيداً لصفحات الحوادث في الجرائد المصرية، هكذا لن تُكلف كتابة سيناريو فيلم عن أشهر قاتلتين في التاريخ محفوظ وقتاً أو جهداً سوى المزيد من الإبداع.
ذاكرة السينما
لم يرَ نجيب محفوظ كوكب الشرق أم كلثوم شخصياً سوى مرة واحدة، عندما أقامت مؤسسة الأهرام له احتفالاً بعيد ميلاده، حضره توفيق الحكيم وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ويوسف إدريس، وكان صاحب فكرة دعوة الست محمد حسنين هيكل. كان هيكل قد حكى لمحفوظ عن ذكرياته مع الست قبيل مقابلتها. كان يذهب إلى حفلاتها الشهرية في الخميس الأول من كل شهر، والتي كانت تُقام في مسرح «جوزيه» أو «سانتي» في شارع عماد الدين، وكان ثمن تذكرة حفل أم كلثوم عشرين قرشاً، وعندما كانت التذاكر تباع في السوق السوداء، كان سعر التذكرة يصل إلى 23 قرشاً. كانت تكاليف السهرة التي تبدأ بمقاهي منطقة العتبة الخضراء، ثم الذهاب إلى المسرح، والخروج إلى حي الحسين لتناول العشاء في الدهّان، والشاي والشيشة في مقهى الفيشاوي، والانتقال من المنزل والعودة إليه لا تكلف أكثر من 50 قرشاً، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت.
اعتبر محفوظ «الست» ملهمة أعماله وأطلق اسم أم كلثوم على ابنته الكبرى، وأطلق اسم فاطمة على ابنته الثانية، وهو اسم أشهر شخصية سينمائية أدتها أم كلثوم في الفيلم الذي حمل الاسم نفسه.