كانت التسمية كالعصر الحجري، أو حتى بالعصور الحجرية، أو الحديدية أو النحاسية.. تطلق لتضم عدة مئات أو آلاف من القرون. وعندما حل التاريخ الميلادي صاروا يسمون بأرقام القرون، سواء بسواء قبل الميلاد وبعده (9000 ق. م. 500 ب. م.) واستساغ بعضهم قسمة القرون إلى عصور، كالعصر القديم والعصر الوسيط والعصر الحديث، وقسمت العلوم والآداب بحسب هذا التقسيم، فقالوا الأدب أو الفلسفة في العصور القديمة، أو الوسطى أو الحديثة، ولكن بعضهم حلا له أن يبتكر تسميات خاصة به، أمثال هيغل: العصر الرمزي والعصر الكلاسيكي والعصر الرومانسي، وفيه يتطابق العقل المطلق مع الواقع وينتهي التاريخ.
اتجه كارل ماركس وتلميذه هيغل، مستفيداً من الأنتروبولوجي الأميركي لويس مورغان، إلى إطلاق السمة الاقتصادية على العصور، فقال عصر المشاعية، والعصر الإقطاعي، والعصر الرأسمالي، والعصر الاشتراكي والعصر الشيوعي، الذي به ينتهي التاريخ، كما انتهى عند هيغل في العصر الرومانسي. ومثل هذه الابتكارات في تسمية القرون أو العصور كثيرة جداً، حتى بات في مقدور المفكر أن يسمي العصر بما يراه سمة مرجحة، أو غالبة على العصر.
بعد عصر النهضة كان هناك شبه إجماع على تسمية القرن السادس عشر قرن الإيمان والسابع عشر قرن العقل، والثامن عشر قرن التنوير (أو الأنوار، كما يترجمها بعضهم) والتاسع عشر قرن الأيديولوجيا (بعضهم سماه القرن البوذي لشيوع الفكر البوذي في كل أوروبا) والقرن العشرين قرن التحليل.
وهناك اتجاه اليوم لتسمية القرن الحادي والعشرين قرن وسائل الإعلام (الإنفوميديا) وبعضهم سماه العصر الرقمي.أول ما سمعنا بعصر التنوير في منتصف خمسينات القرن الماضي، تساءلنا: لماذا سمي عصر التنوير؟ وما الفرق بين عصر العقل وعصر التنوير؟ أليس التنوير عقلانياً؟ فإن لم يكن عقلانياً فإنه لا معنى له..
في ذلك الزمن سلّمنا بالتسمية من غير أن نطرح أي تساؤلات عمن أطلقها، وكيف استغلت إلى درجة جعلت عصر التنوير نقيضاً لعصر الإيمان، عصر البحث العقلي، مقابل الإيمان التسليمي.
بين العشق والكراهية
لم يعشق أنصار التفكير الحر قرناً، ولم يكيلوا تقريظاً لأي قرن كما فعلوا للقرن الثامن عشر. إنه، في اعتقادهم، انبعاث للعصر اليوناني لدى عشاق الثقافة الإغريقية بيتر غراي في كتابه «التنوير» فهو وحده «المنقذ من الضلال» وليس وصايا الغزالي، وهو المرشد إلى العصر الحديث، وليس نسك القديس أوغسطين، وهو الذي يحرر الشرق والغرب معاً، وليس العروش والتيجان.
وأدى هذا العشق إلى إغراق الأسواق، أسواق كل العالم، بكتب عن القرن الذهبي، معشوق الفكر المتمرد. ونذكر بعض الكتب التي ظهرت بالعربية أو مترجمة إلى العربية: «فلسفة الأنوار والعقل الحديث» (بوليتزر)، «روح الأنوار» (تودوروف)، «فلسفة الأنوار» (فولغين)، «العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب» (أركون)، «لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي» (هاشم صالح، وله أيضاً كتاب «مدخل إلى التنوير الأوروبي»، «العرب ومسألة التنوير» (بوجليدة)، «مئة عام من التنوير» (عادل مصطفى)، «مدخل إلى التنوير» (مراد وهبه)، «عصر التنوير» (ترجمة إمام عبد الفتاح إمام)، «نقد التنوير عند هردر» (مجدي الجزيري)، «جهالات عصر التنوير» (جلال كشك)، الخ..
ومن الطبيعي جداً ألا يكون ثمة إجماع على قبول عصر التنوير فبعضهم رفضه بكامله، ورأى الأنوار في دينه، أو عقيدته، أو فلسفته، أو في عصر غير عصر التنوير، قد يمتد إلى الأسلاف.. في رفض كلي لفلسفة التنوير وفلاسفتها، الذين أسهب فولغين في تعدادهم حتى بلغوا العشرين.
ربما كان عصر الفلسفة اليونانية أو عصر النهضة أو عصر الرومان من المنافسين الكبار له، ولكن لا يوجد عصر حظي باهتمام المثقفين المحدثين والمعاصرين كما حظي هذا العصر، الذي يحصره بعضهم في القرن الثامن عشر، وبعضهم يوسع حدوده قليلاً. بيد أن العدو الأكبر لهذا القرن هو التشدد الديني في أن عصر السلف خير من عصر الخلف.
شاهد من أهله
لا نجد، في كل الكتب التي ذكرنا والتي لم نذكر، من يقول لنا لماذا اختير «التنوير» أو «الأنوار» لوصف القرن الثامن عشر، قرن الثورة، بل الثورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويسأل المرء نفسه، لماذا سموه التنوير، ولم يسموه عصر العقل، مثلما أطلقوا على القرن السابع عشر؟ وهل يختلف عقليو القرن السابع عشر عن عقليي القرن الثامن عشر؟ وهل ثورات هذا القرن أشد تأثيراً من الثورة الكوبرنيكية التي سبقته وعصفت بكل التصوّرات الكلاسيكية السابقة، من عقائدية ودينية وفلسفية؟ أو الثورة الداروينية التي أعقبته وجعلت النشوء بديلاً عن الخلق؟
لا بد من البحث عن سبب هذه التسمية التي تفرد بها القرن الثامن عشر من دون القرون الأخرى، وسنبدأ من أشهر شخصية في القرن الثامن عشر وهو عمانوئيل كانط.
طرح أحد القساوسة في مقالة له سؤالاً ساخراً «ما هذا التنوير الذي تتحدثون عنه؟» فردّ عليه كانط بمقالة يشرح فيها معنى التنوير، قال:
«التنوير هو تحرر الفرد من الوصاية التي جرّها على نفسه. الوصاية هي عدم قدرة الفرد على استخدام فهمه الخاص دون توجيه من الآخر. ليس القصور العقلي سبباً في جلب الوصاية، بل السبب انعدام الإقدام والشجاعة على استخدام العقل دون توجيه من الآخر... فشعار التنوير: «تشجع واستخدم عقلك الخاص»..
إنه يربط بين التنوير وحرية الفكر، ولهذا السبب قام من يسميهم «الأوصياء» بكتم أنفاس العقل البشري، وقمع أي حرية، وليس حريّة التفكير وحدها:
«استخدام الفرد لعقله علناً يجب دوماً أن يكون غير مقيّد، وهذا وحده ما يجلب التنوير».
وفي القرن الكانطي كان رجال الدين يتصدرون قائمة الأوصياء الذين أشار إليهم هذا الفيلسوف النبيل. لكن لا هو ولا الأوصياء شرحوا لنا من أين اشتقت كلمة «التنوير».. ولماذا استخدمت؟
لماذا لوسيفر؟
من كل المصادر والمراجع التي اطلعنا عليها لم نجد تفسيراً لإطلاق اسم التنوير على القرن الثامن عشر. قبله عصر العقل، وبعده عصر الأيديولوجيات.. وكل ذلك مفهوم ومعلوم، ولكن لماذا التنوير؟ وما المعنى الذي يحمله حتى شاع كل هذا الشيوع؟ كان بروميثيوس من أوائل الأسماء الميثولوجية التي انتشرت في أوروبا، . ونجد ذلك في كثير من الآثار الأدبية، ولكن فكرياً كان لوسيفر هو الاسم الذي اختاره فلاسفة القرن الثامن عشر، مع أن الرمز واحد. كما برز بروميثيوس كمحرر في الدين اليوناني القديم.ولأسباب وأسباب كان بروميثوس أو لوسيفر قوياً في الغرب، سقيماً في الشرق. وهذا مأخذ على النهضة العربية التي كانت أشبه بصفقة فكرية بين الحرية العلمية والصندوق العقائدي الموروث.
معظم المفكرين العرب أوضحوا هذا المأخذ، ومنهم هاشم صالح الذي أفصح عن موقفه بلغة مشحونة بالشجن، مؤكداً أن الفكر المتسلح بالمعرفة والخبرة وحده ينتقي من الصندوق الأدوات اللازمة للتحرر من الدوران العقائدي، والحلقات المغلقة، ويرى أن الثورات العربية كان ينقصها «التنوير«قادة وجماهير، كأنه كان ينظر إلى التشبث الجماهيري بالصندوق، سبباً أكبر لفشل الثورات العربية، فما لم يكن وعي قادة الثورة نابعاً من خلفية جماهيرية، فإن هذه الجماهير تحبط كل محاولات الثورة، بل ربما تكون الثورات المضادة بنت هذا الصندوق الجماهيري المقفل. إن بروميثيوس أو لوسيفر لم يفعل فعله في حركات التحرر الفكري، وبالتالي السياسي والاجتماعي، في بلدان الصندوق.
أما اختيار اسم لوسيفر «التنوير» في الغرب فيرجع إلى تفاقم وطأة السلطة الدينية الرجعية، التي وصل تدخلها إلى أعماق المجتمع والفرد، وخنقت الحريات، بالإضافة إلى ما عانته أوروبا من محاكم التفتيش الشهيرة. وكانت المعارضة تقف في وجه هذه التصرفات الشديدة في كل بلدان أوروبا، وبالأخص في ألمانيا وبريطانيا، ولكن النفوذ الساحق للكنيسة جعل حركة الاحتجاج ضعيفة في بقية البلدان.
إسبانيا وحدها لم تعرف حركة احتجاج ضد الكنيسة بسب الصراع المسيحي الإسلامي، فرضيت بمحاكم التفتيش لاعتقادها أنها ستستخدم ضد المسلمين، ولم تكن تعرف أن لا فرق بين مسلم ومسيحي ويهودي عندما تصل الأمور إلى حد تهديد السلطة القائمة. الحركات الدينية المناهضة في أوروبا لسلطة الكنيسة معروفة. ومن الأدبيات الدينية انبثقت شخصية لوسيفر (المنير أو المشرق أو حامل النور) بعد أن أطلق المعارضون على القرون التي كانت يد الكنيسة فيها هي الأقوى اسم «عصر الظلام«. ولدى البحث عن شخصية معارضة، لم يجدوا أفضل من لوسيفر، رئيس الملائكة الذي انشق عن الله، لأنه لا يريد الإذعان لأوامر الخالق من غير إبداء الرأي في الأمور التي تصدر. ومن هنا كان كل من يعارض الطقوس والأوامر الدينية في المسيحية الأوروبية، يتخذ من لوسيفر منحى لتفكيره، ونموذجاً لسلوكه.
الاهتمام بلوسيفر قديم، كان سرياً، ثم طفق يظهر، حتى جاء القرن السابع عشر، فلهجوا باسمه علانية، بل بإعجاب وفخر. فهذا ملتون في «الفردوس المفقود» يقول:
فاعلم أنه بعد أن سقط لوسيفر
سمي هكذا لأنه مشرق وسط حشد
الملائكة، ولأنه ذلك النجم بين النجوم
مع فيالقه الملتهبة عبر الهوة
في مكانه، وعاد الابن العظيم
منتصراً مع قديسيه، رأى الكلي القدرة
الأب الأبدي من عرشه...
حشودهم، فتحدث إلى ابنه. «الفردوس المفقود»..من ترجمتنا:7/ 131- 137]
من الخفاء إلى العلن
حتى يميّز المفكرون التنويريون الأوروبيون بين أنوارهم وأنوار المسيحية، أطلقوا على العصر الذي كانت الكنيسة تهيمن فيه على كل الأمور تقريباً اسم «عصر الظلام» أو«عصور الظلمات». وبحكم اهتمامنا لاحظنا أن التسميتين»عصر الظلام«و»عصر الأنوار«متزامنتان، مما يدفع إلى الاعتقاد أنهما من مصدر واحد، وأن من سمّى الأول سمّى الثاني في الوقت ذاته، فرداً كان أو مجموعة، اتجاهاً فلسفياً أم حركة سياسية، »أبو حيان التوحيدي«أو»إخوان الصفا«.
في قرن التنوير (أي الثامن عشر) ظهر المستور إلى النور، وصارت الدعوة علنية، وحققت في الربع الأخير من هذا القرن ثورتين لم يشهد التاريخ مثيلاً لهما: الثورة الأميركية، والثورة الفرنسية.
وفي العام الأخير من القرن التاسع عشر ظهر كتاب «أراديا» أو إنجيل السحرة، لتشارلز ليلاند. في هذا الكتاب ظهرت حركات خفية متطرفة مناوئة للمفاهيم الدينية في المسيحية، وتعتمد على قوى الطبيعة في تغيير العالم، وليس على الدعاء والابتهال. وربما كانت عبادة الشيطان، أو حركات الأنتي خريستوس، من السلالة ذاتها. وربما كان نيتشه من أبرز المنافحين عنها.