ماهو التاريخ؟، وماهية التاريخ؟ وهل علينا التفريق بين التاريخ والماضي؟ وكيف يمكن الجمع بين هذين الشيئين معًا؟ ماهي قدرة التاريخ على توسيع الذاكرة، وتعديلها ونقدها؟ وماهو الفرق بين التاريخ والتأريخ؟ مواضيع إشكالية لم يتوقف البحث فيها.
اليوم.. مع التطورات الحديثة في مناهج العلوم الإنسانية عامة، والتاريخية خاصة، عاد الجدل من جديد في قراءة مفهوم التاريخ، ومناهج كتابته، فكان لابد من إعادة طرح هذه الأسئلة من جديد، على متخصصين في علم التاريخ، فكان الحوار التالي مع الدكتور عبدالله سليمان المغني النقبي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة الشارقة، دكتوراه - جامعة الحسن الثاني - المغرب - كلية الآداب 2011.
* بداية.. لا يزال مصطلح التاريخ يثير كثيراً من الجدل، كيف لنا أن نحدده من وجهة نظركم؟
- نعم دار جدل كبير بين العلماء، حول كيفية تصنيف التاريخ، إلا أن هذه المرحلة انتهت الآن واستقر تصنيف التاريخ علماً لأن له مناهج وطرائق قادر بها على الوصول للحقيقة، وبالتالي لا يمكن نفي صفة العلم عنه.
* كتابة التاريخ.. يقال إنها صناعة لها «شروطها وأدواتها» فهل كل من يملك معرفة بالتاريخ، دراسة أو قراءة، مؤهل لأن يكتبه «كتابة معرفية»؟
- طبعا لا، ليس كل من درس التاريخ وقرأ قادر على الكتابة العلمية الموضوعية، لأن للتاريخ مناهج وطرائق لا يمكن الكتابة فيه دون قدرة كبيرة لدى الكاتب على استيعاب المناهج التاريخية، إضافة إلى القدرة الهائلة لدى كاتب التاريخ، على تدقيق الروايات، ونقدها، وتحليلها، وربط أجزائها ومعارضتها بالروايات الأخرى لفهمها، وفهم ميول كتابها مع ضرورة الاستعانة بالعلوم المساندة من لغة وشعر وفقه لغة، وجغرافيا وغيرها، للتأكد من إمكانية تحقق الخبر التاريخي.
التاريخ علم
* لو سلمنا جدلاً بأن «التاريخ علم» يتغلب فيه التحقيق على التخييل، والإبلاغ على البلاغة، كيف نفسر حقيقة أن الأقوى هو من يكتب التاريخ دوما؟
- هذا الأمر ليس شرطاً، ليس دائماً من يكتب التاريخ هو «الأقوى» وإلا من كتب التاريخ في القرن الأول الهجري؟ الذين كتبوا هم جماعات المعارضة المغلوبة أمام قوة الدولة الأموية، هذا من ناحية، ومن ناحية الأخرى، كتابة التاريخ لا تعني تحقيقه، وكثيرا ما وجدنا أن الأقوى يكتب ما يريد، ثم يستطيع المؤرخ المدقق بالنظر الدقيق، كشف كل ما ادعاه زوراً، وحاول دسه في الأخبار التي رواها.
* ما علاقة التاريخ بالفلسفة وخطورة غيابها في كتابته؟
- هناك تلازم حديث بين التاريخ والفلسفة التي تستطيع تقديم رؤى متكاملة لتفسير سيرورة مجتمع من المجتمعات في حقبة من الحقب، وغيابها يفقد التاريخ بعض رؤاه وتفسيراته للحوادث، لكنني هنا لا أستطيع جعل التاريخ دون الفلسفة قاصراً بالمطلق، بل هو علم يتكامل، ويدعم بالفلسفة التي تحاول منحه الرؤى الكبرى، والضوابط أحيانا لتفسير ما جرى.
* ما هي الحدود التي تفصل الخيال، والمخيال الجمعي عن الواقعة المتحققة تاريخياً؟
- هنا فيما يتعلق بالمؤرخ المدقق هناك فواصل وفوارق هائلة بين الخيال، والمخيال الجمعي، وبين الوقائع التاريخية المتحققة، وبين التاريخ واللا تاريخ، يستطيع المؤرخ بمعارفه ومناهجه وأدواته وأنظاره، التمييز بينها.. لكن للأسف هي متداخلة لدى غير المتخصص. هنا يجب أن نفرق بين الكاتب للتاريخ، وبين المؤرخ.
* يقول المفكر المغربي عبدالله العروي: «لا تاريخ من دون وعي، وإذا كان الوعي فلا مناص من»التاريخانية «ما هو الفرق بين التاريخ والتاريخانية؟ وأي علاقة بينهما في كتابة التاريخ؟
- التاريخ بهذا المفهوم الذي يطرح يقصد به مجموع المعارف والوقائع التي حدثت في الماضي، وما زالت فاعلة في المجتمع، ضمن أطر الإعجاب، أو القداسة، أو غيرها. أما التاريخانية فهي النظر الدقيق لتلك الوقائع، ومحاكمتها ضمن أطرها الأساسية على اعتبار أنها حادثة وقعت في زمن محدد بظرف محدد.
السرديات الكبرى
* كيف نفسر التوجه الحديث في علوم التاريخ إلى إعادة قراءة السرديات الكبرى من بوابة مفهوم «التاريخ من أسفل»، وهو مصطلح حديث بقي غائبا في عالمنا العربي؟
- رغم أهمية مفهوم التاريخ من الأسفل، وقراءة السرديات الكبرى ضمن مفاهيمه، ودخوله للغرب منذ الثمانينيات، وتطبيقه بشكل ناجح، ولو بشكل جزئي في الغرب، إلا أن هذا المنهج لم يدخل عالمنا العربي، وذلك لبُعد المؤرخين العرب الجدد في مجملهم عن الغرب ودراساته، وربما لتقاعسهم عن تطبيقه لمحاذير يرونها (اجتماعية) لكن هنا يجب الانتباه إلى أن السياق الغربي مختلف عن السياق العربي سواء من ناحية آليات الكتابة للتاريخ قديما وحديثا أو من ناحية المناهج المعالجة لها.
* هل يمكن توظيف فلسفة التاريخ للاستفادة منها في استشراف المستقبل؟
- نعم يعتمد استشراف المستقبل الآن كثيراً على «الفكر التاريخي» كما يحب شيخ المؤرخين، وإمام التاريخيين العرب، العلامة «عبدالعزيز الدوري» أن يسميه في العالم العربي، لقناعته بعدم وجود فلسفة تاريخية في العالم العربي، رغم استشراف العديد من المؤرخين العرب قديما وحديثا للمستقبل من خلال دراسة الماضي وفهم الحاضر، وكذلك الفلسفة، وطبعا كل هذه العلوم لاشك تفيد كثيرا في هذا الجانب.
* يقول بعض النقاد، إن أغلب البحوث التي كتبت عن التاريخ في الإمارات، بقيت في إطار التاريخ الحديث والمعاصر، وإعادة ترتيب للأحداث دون إيلاء أي اهتمام لدراسة دور التمثلات الاجتماعية والثقافية والإنسانية في دراسة الأحداث الكبرى، تعليقك على ذلك؟
- هذا الأمر صحيح في العموم، وربما فيه بعض المنطق، لأن المدرسة التاريخية الإماراتية، تعتبر حديثة، قياساً بغيرها من المدارس التاريخية العربية، وكذلك ما زالت بعيدة عن المفاهيم الفلسفية في دراستها، وهذا يعود إلى أن المدرسة الإماراتية ما زالت في طور التدوين الكمي لتاريخ الدولة، وكشف مصادره، ووثائقه المختلفة. وأظن الآن بعد قيام الدولة بجمع مئات الآلاف من الوثائق لتاريخ الإمارات، سيبدأ الاهتمام بالتحليل، والتعليل، وربط التمثلات الاجتماعية والثقافية الإنسانية في دراسة تاريخه من مختلف جوانبه. لكن كل ذلك لاينفي وجود بعض الدراسات التي حاولت سبر غور التمثلات الاجتماعية، ودورها في التاريخ الاجتماعي لتاريخ الإمارات.
عراقة المنطقة
* لديكم عدة مؤلفات تاريخية حول الإمارات، ما الذي تحاولون قوله عبرها؟ وما هو الجديد فيها؟
- أحاول التأكيد على عراقة تاريخ هذه المنطقة من الوطن العربي، وإظهار شخصيتها المستقلة من الأزل، والتأكيد على ضرورة دراسة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وأثرها على المجتمع الإماراتي، والتأكيد على ظهور هوية متميزة لها حتى قبل قيام الدولة، وإضافة رصيد معرفي متقن علميا، للمكتبة التاريخية المحلية، بسبب قلة الدراسات العلمية المرتبطة بتاريخ الإمارات.
* لديكم بحث حول التطور التاريخي للحياة الثقافية في الإمارات منذ مطلع القرن العشرين، أين وصلتم فيه؟
- أحاول القيام بمشروع لرصد التطور التاريخي للحياة الثقافية في الإمارات، من خلال دراسة حالات محددة، انطلاقاً من بحثي عن «عبدالله المطوع» وأثره الثقافي عموماً، والتاريخي خصوصا.
وبعد الانتهاء من تلك الدراسات البحثية، سأحاول ربطها لأضع تصورًا أساسياً حول تطور الحياة الثقافية في الإمارات، إضافة إلى عملي الكبير الذي أوشك على الانتهاء منه، وهو «تاريخ خورفكان» ومحاولتي هنا وضع كل التطورات التي حدثت في خورفكان ضمن إطارها الكلي مع التطورات الكبرى لدولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك من خلال دمج المناهج التاريخية الحديثة، والمصادر المتنوعة، وخصوصا الروايات الشفوية، بعد تدقيقها ومقارنتها بعضها بعضا للوصول إلى أقرب الصور لحقيقة ما كان وما جرى.
* كيف نقرأ من وجهة نظرك أهمية المكتشفات الأثرية في الإمارات، ودورها في إعادة كتابة التاريخ؟
- المكتشفات الأثرية التي ظهرت حديثا، والتي مازلنا متأكدين من إمكانية العثور على غيرها، لها درجة عالية من الأهمية في إعادة كتابة تاريخ المنطقة، لأنها من أدق المصادر التاريخية، والتي قد تغير الآن من وجهة المسار التاريخي لعموم تاريخ الإمارات.
* على ضوء التطورات التقنية الكبرى العابرة للحدود، وانتشار ثقافة الصورة، ودورها الكبير في التسجيل، والتوثيق، هل ترون ثمة حاجة ملحة اليوم لاستعادة الثقافة التاريخية، وإعادة التفكير في المفاهيم، والمناهج المتبعة في كتابته وتفسيره؟
- نعم أرى ضرورة أساسية لاستعادة الثقافة التاريخية، وإعادة التفكير في مناهج كتابة التاريخ، لأن مناهج التاريخ يجب أن تتطور مع تطور الأدوات، والوسائل التي ستؤدي إلى الارتقاء في النتائج المستخلصة من تلك الأبحاث.
* كيف نقيم حجم الإقبال الطلابي في الإمارات على دراسة العلوم الإنسانية، والاجتماعية خاصة علوم فلسفة التاريخ؟
- الإقبال على التاريخ في الإمارات كثيف جداً، رغبة في التعرف على الماضي، والتعرف على تاريخهم ومآثرهم، ورغبة في زيادة مخزونهم الثقافي، والمساهمة في تشغيل الهوية الثقافية للدولة، وأعطي مثالاً من جامعة الشارقة فرع خورفكان، حيث بلغ عدد طلبة البكالوريوس قرابة 500 طالب وطالبة، وقرابة 60 طالباً وطالبة في مستوى الماجستير، وأحسب الرقم لوحده يقدم كل الدلائل على الاهتمام والكثافة في الإقبال على العلوم الإنسانية عموما، والتاريخ خصوصا.
* ماهو وضع مؤرخي الإمارات اليوم؟ كيف نصف طبيعة اشتغالهم؟
- المؤرخون الإماراتيون ناشطون اليوم في اتجاهين:
الأول: جمع كل مصادر تاريخ الإمارات، وإبرازها، ليسهل على الدارسين إيجاد المادة الأولية لدراسات التاريخ.
الثاني: دراسة الظواهر لكبرى في تاريخ الإمارات، وخصوصاً الحديث والمعاصر، وأحسب أنهم بعد فترة وجيزة سيتوجهون لدراسة الظواهر الاجتماعية ولدراسة المظاهر الاقتصادية.
ونأمل في المستقبل القريب قيام فرق بحثية قادرة على التأسيس للتاريخ الكلي، لذا فإن معظم الدراسات التاريخية في الإمارات، مازالت جهوداً فردية غير متكاملة وهي بلا شك تحتاج للتجميع والتعاون لرسم مسار طبيعة الدراسات التاريخية.
* إذاً ما الذي يحتاجه العاملون في كتابة التاريخ، والتأريخ في الإمارات للنهوض بواقع صناعة التاريخ إماراتيا؟
- المطلوب إكمال مهمة جمع الأصول التاريخية لتاريخ الإمارات، وتشكيل فرق بحثية، وتزويد الآخرين بأبحاثهم وكتاباتهم، حتى لا يكررها الآخرون ونحتاج أيضا لإتقان اللغات الحية، واللغات المهمة لفهم تاريخ الإمارات، وترجمة ما كتب عن الإمارات في اللغات الأخرى، خاصة الوثائق المهمة.
ما بين التاريخ والأدب
نال عبدالله سليمان المغني النقبي عدة جوائز في حقل التميز العلمي، منها: جائزة راشد بن سعيد آل مكتوم للتفوق العلمي 2012 2013، وجائزة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان للتميز العلمي على مستوى الدولة، كما حصل على جائزة الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم للموجه التربوي المتميز على مستوى الدولة، وجائزة الشارقة للتميز التربوي (الموجه التربوي المتميز) 2003/2004.
له عدة مؤلفات ما بين التاريخ والقصة والخاطرة الأدبية، منها في مجال تخصصه التاريخ، مثل سياسة بريطانيا التعليمية في إمارات الساحل في الفترة من 1953 إلى 1971 الصادر في 2009، وكتاب تاريخ التجارة في الإمارات قديماً منذ بدايات القرن العشرين وحتى قيام الاتحاد، كما صدرت له قصة (الغزاة)، وكتاب للخواطر بعنوان (أحلام تسابق الريح).