القاهرة (الاتحاد)
الترجمة هي الجسر الأساس لنقل المعرفة والعلم بين الشعوب، في مسيرة الحضارات، تنقل خلاصة ما توصلت إليه الحركات العلمية والفنية والفكرية، وقد تبادلت الحضارة البابلية والآشورية والمصرية، بعض الوثائق والقوانين عبر الترجمة، بالإضافة إلى المؤلفات الفكرية والأدبية، وترجمت الحضارة اليونانية من كل تلك المعارف من إبداعات الحضارات الشرقية، وكانت ترسل طلابها إلى مكتبة الإسكندرية القديمة.
وظهور الترجمة كنشاط إنساني يواكب التطور الاجتماعي البشري، هي أداة التواصل بين الأمم التي تختلف لغاتها، وقد بزغت الترجمة كنتيجة للأنشطة الإنسانية، واستطاعت أن تخرج بالشعوب من حدودها الجغرافية لتتفاعل مع جيرانها، وكان أول صور الترجمة هي الترجمة الشفوية، لبساطة النظم اللغوية وعدم اختراع الكتابة، فكانت أداة التفاهم بين القبائل والتجمعات البشرية، سواء خلال الأنشطة التجارية، أو المعاهدات والاتفاقيات في وقت الحرب.
ويعد الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور، المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، وباني بغداد، أول من أرسى الأصول الأولى المنظمة لحركة الترجمة، كان يشكو من آلام في المعدة، واستعصى على الأطباء علاجه، فاستقدم الطبيب جورجيوس بن بختيشوع النسطوري، الذي نجح في علاجه وتم شفاؤه، وكان هذا سبباً في إبقاء ذلك الطبيب قريباً منه، والذي أشار على الخليفة بضرورة الحصول على كتب للطب، متوفرة بأماكن متعددة، والعمل على ترجمتها للإفادة منها، فوافق الخليفة على إحضار الكتب، وتولى جورجيوس نقلها إلى العربية، وترجم مؤلفات كثيرة في الطب من اليونانية، وكان عمله هذا نقطة الانطلاق في بدء عملية ترجمة الكتب الطبية إلى اللغة العربية.
وقام أبو جعفر المنصور، باجتذاب الأطباء النساطرة إلى مدينة بغداد، وتُرجمت له كتب في الطب والنجوم والهندسة والآداب، وأُلفت له ولعصره الكثير من كتب الحديث والتاريخ، كما أن المنصور طلب من إمبراطور بيزنطة أن يرسل له أعمال إقليدس وبطليموس، وترجمها للعربية، وكان هذا الكتاب أول ما ترجم من اليونانية إلى العربية في عهد الدولة العباسية.
خصص المنصور خزانات لهذه الترجمات وغيرها من المخطوطات القيمة في شتى المجالات، وحتى نهاية عهده كانت مخطوطات التراث ودفاتر الترجمة والتأليف تحفظ في قصر الخلافة في بغداد، حتى ضاق عنها على سعة قصره.
عرف الخليفة أبو جعفر المنصور باهتمامه بعلوم الفلك والنجوم، فأمر بترجمة كتاب «إقليدس»، المسمى «كتاب أصول الأركان»، وبعده كتاب «الهند والسند»، وهو مؤلف هندي يهتم بعلم النجوم ثم الكتاب البديع لصاحبه عبد الله ابن المقفع «كليلة ودمنة»، ثم انتقل إلى ترجمة أمهات الكتب اليونانية.
ومن الأعمال الجليلة التي تُذكر للمنصور عنايته بنشر العلوم المختلفة، ورعايته للعلماء من المسلمين وغيرهم، وقيامه بإنشاء «بيت الحكمة» في قصر الخلافة، وإشرافه عليه بنفسه، ليكون مركزاً للترجمة إلى اللغة العربية، ولكن المؤسس الحقيقي لبيت الحكمة كمكتبة عالمية هو الخليفة المأمون وفعل مثل ما فعل المنصور، وتعتبر مدرسة بغداد «بيت الحكمة» من أهم المدارس للترجمة.