كنت ـ ولا أزال ـ أحب كتب سير العظماء، كي أتعلم أسرار العظمة والملامح التي تجعل من العظيم الذي رحل حاضرا حضورا دائما في وعي الأجيال المتلاحقة. ويبدو أن سير العظماء كانت الدافع وراء شغفي بكتب السير الذاتية بكل أنواعها، سواء كانت مكتوبة بأسلوب أدبي ساحر، مثل كتاب "الأيام" لطه حسين أو "حياتي" لأحمد أمين، أو مكتوبة على هيئة رسائل تصور وعي صاحبها في فترة من فترات حياته، مثل "زهرة العمر" التي نشر فيها توفيق الحكيم رسائله لصديق شبابه الباريسي، أندريه. ولم أستثني كتب المذكرات التي يكتبها القادة والأعلام عن حياتهم. وكم أتمنى أن أقرأ بالعربية مذكرات تشرشل أو ديجول. وللأسف لم تتح الحياة العاصفة لجمال عبد الناصر والسادات أن يكتب أحدهما أو كلاهما مذكراته. وكم كنت أتمنى أن يفرغ كاتب مرموق مثل محمد حسنين هيكل كي يكتب سيرة عبد الناصر لتبقى أثرا رائعا مثل كتاب عباس محمود العقاد عن سعد زغلول، وهو أشبه بتمثال رائع نحته عباس العقاد عن زعيم الأمة الذي قاد ثورة الشعب المصري ثورة 1919. والحق أنني لم أتأثر وجدانيا بكتاب العقاد، ربما لأني قرأته في سن مبكرة، مثلما تأثرت بالسيرة التي كتبها فتحي رضوان عن طلعت حرب بعنوان: "طلعت حرب: بحث في العظمة". والحق أن طلعت حرب له مكانة خاصة، يحتلها داخل وعيي في تاريخ مصر الحديثة، ولذلك كتبت عنه بوصفه أحد أعمدة ثورة 1919. ومن الشخصيات العالمية التي لها دورها الذي لا ينسى شخصية تروتسكي الذي أراه أعظم العقول التي قادت ثورة 1917 في روسيا القيصرية. واسمه الحقيقي ليف دافيدوفيتش برونشتاين (1879 ـ 1940). وهو أذكى العقول التي خلفت لينين وأرحبها أفقاً، وهو مؤسس الجيش الأحمر وعضو المكتب السياسي للحزب البلشفي تحت قيادة لينين. وظني أن رحابة أفق تروتسكي وانفتاح عقله هي التي جعلت منه نقيضا لستالين الذي ناصبه العداء، واضطره إلى الفرار من الاتحاد السوفييتي والهرب لسنوات طويلة في منافي العالم، إلى أن تمكن منه زبانية ستالين، واغتالوه في المكسيك حيث كان يقيم في منزل الفنان دييجو ريبيرا. ويبدو أن حياة تروتسكي ما كان يمكن أن يصوغها إلا عاشق لأفكاره ومبادئه. وكانت نتيجة هذا العشق الفكري سيرة رائعة تعد من أهم سير العظماء. وقد كتبها إسحاق دويتشر في ثلاثة مجلدات: الأول بعنوان "النبي المسلح" وهو عن فترة صعود تروتسكي، والثاني بعنوان "النبي الأعزل" وهو عن فترة سقوط تروتسكي وهزيمته في الصراع مع ستالين، أما المجلد الثالث فهو بعنوان "النبي المنبوذ". وهو عن المرحلة الأخيرة التي زامنت هروبه من زبانية ستالين ومقتله في المكسيك. ولا أظن أنني قرأت إلى اليوم كتاب سيرة فيه صبر ودأب ودقة على بعث الماضي وتصويره مثل كتاب دويتشر بطرازه النادر.