حصان
توسم العرب الخير في نواصي الخيل، ومثلهم فعل ستيفن سبيلبيرغ. ومن أجلها ـ من أجل الخيل ـ جعل فيلمه الأخير معقوداً لما تمثله أو تحمله من معان في تكوينها وليس فوق ظهورها: البطولة، المجد، العنفوان، العاطفة، الصداقة، الإخلاص، التفاني والفداء.. لكأن الخيل عند سبيلبيرغ، هي نسخة غير منقحة من الإنسان في فطرته الأولى.
دخل سبيلبيرغ مع “حصان الحرب” War Horse إلى ميادين القتال لكي يقف على بشاعتها ويخرج منها بوثيقة بصرية مدهشة تدينها. وتلك تبدو مهمة دائمة عند هذا المخرج العبقري، يعطيها في كل مرة صياغة مختلفة. فعل ذلك في “لائحة شيندلر” حيث جعل من آلام قومه اليهود في المحرقة النازية عنواناً للتوحش البشري. وفي “إنقاذ الجندي رايان” يبرهن سبيلبيرغ على فظاعة العنف بالعنف نفسه. أكثر من نصف المدة الزمنية للفيلم خصصها المخرج لتصوير معارك حربية بعد نزول الحلفاء على الشواطئ الفرنسية، في نهاية الحرب العالمية الثانية. كل ذلك العنف كان ليصبح بلا قيمة لولا تلك اللحظة في بداية الفيلم عندما تعلم أم أميركية بمقتل أولادها الأربعة دفعة واحدة على جبهات القتال.
في “حصان الحرب” يعود سبيلبيرغ إلى الحرب العالمية الأولى. كانت الجيوش المتحاربة قد بدأت بحشد قواها، عندما تستقبل عائلة ريفية بريطانية فقيرة عضواً جديداً بين أفرادها بسبب نزوة مكلفة من الأب. كان العضو الجديد هو حصان غير مدرّب، يمثل عبئاً ثقيلاً. لكن الابن ألبرت (الممثل جيريمي إيرفين) يتولى رعايته وتدريبه ويمنحه اسم “جووي”، فتنشأ بينهما علاقة صداقة وولاء. وعندما بدأ الجيش بشراء المزيد من الخيول، تضطر العائلة لبيعه.
في ميادين القتال الأوروبية يخوض “جووي” حرب فناء. وعندما يقع الحصان في أسر الألمان، تتبدى فيه ملامح “إنسانية” فيعين صديقه (حصان آخر) على تحمل المشاق ويفتديه. وفي لحظة رعب فائقة يجفل ويعدو هارباً بين خطوط القتال، لينتهي به الأمر عالقاً بين الأسلاك الشائكة المتداخلة في حقل يتوسط الجيشين المتقاتلين. هنا يصبح تخليص الحصان هماً مشتركاً للمتحاربين. يتسلل واحد من كل جانب. حوله يتخلصان من حقدهما. يضعان أسلحتهما جانباً. يتعارفان. يتعاونان في تحرير الحصان من شراكه المضنية. ثم يكتشفان طريقة عادلة لمعرفة أيهما أحق به. ثم يتوادعان ككائنين بشريين، لكنها يتركان ملامحهما الإنسانية في تلك البقعة المحروقة، ويعود كل منهما إلى خندق القتال الذي يحتمي به من الآخر. وبين قومه الإنجليز يلتقي “جووي” مع مدربه الشاب “ألبرت” الذي تطوع في الجيش لكي يبحث عن حصانه المفقود.
ربما كانت رسائل ستيفن سبيلبيرغ السابقة عن الحرب وضدها، عاجزة عن توصيل مكنونها في عصر أصبح فيه العنف رياضة عالمية.. بلا قواعد أو قوانين، لذلك لجأ إلى هذه المغامرة اللاهثة مع حصانه “جووي” فلعل الرسالة تكون أبلغ. وبغض النظر عن نبل الغاية، لكن كمّ العنف الذي يصوره الفيلم جعل النقّاد البريطانيين يستقبلونه بفتور. بعكس استقبالهم للرواية الأصلية التي كتبها موربور غو عام 1982، والمسرحية التي عرضها مسرح لندن عام 2007.. فهناك كان العنف مضبوطاً أو غير مرئي، أما في السينما فقد نفرت الدماء بغزارة.
تلك ستارة أخلاقية يحتج بها نقّاد السينما الأوروبيون، لدرء صورة ما فعله أسلافهم في الماضي السحيق عن أعينهم، فما الذي سيفعلونه لو أن سبيلبيرغ قدم صورة ما يفعله أترابهم في الحاضر الغض؟.
adelk58@hotmail.com