السكن في الماضي
أن تعيش في الحاضر، وأنت تحدق في الماضي، أن يكون الماضي هو الحقيقة الكبرى لديك، أن يكون الحاضر مجرد لوحة تريد أن تُكسيها بألوان قديمة وحروف تصيغ بها كلمات ما عادت تلمع، أن يشعرك الماضي بوجودك وحضورك، ويجعل المستقبل باباً مسدوداً أمامك، لا بل إنه غير متحقق، غير موجود في الأساس إلا في شكل الماضي الذي تراه، يعني الوجود كله.
أن يحدث هذا يعني أن هناك أزمة، بل كارثة تحدق في كل فعل تطويري تقدمي تنويري، بسبب غياب الحاضر والمستقبل الذين بهما يرتبط كل تطور وإنجاز حضاري إنساني بمعناه المطلق، وعلى أصعدته كافة العلمية والثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والرياضية والتقنية.
فالماضي هو مشعل استرشاد لصنع الحاضر الذي يقوم على الفهم والاستيعاب، واستخلاص دروس منفتحة غير منغلقة ومقيدة، دروس تدفع إلى الأمام لبلوغ مستقبل يكون حاضراً بدوره، ولكن تتجلى فيه إنجازات تنتمي إلى قيم إنسانية عالية تضيف إلى البشرية رونقاً يتماهى مع رؤى الشرفاء في كل العالم، لتكون الحياة باحة لفعل التطور والرقي، والإنتاج والمحبة، والإيمان بالحق والحرية والجمال.
ففي نظرة إلى الحضارات الكبيرة نجد أن منجزها قام على الرؤية المستقبلية، وليس الجلوس في الماضي وتكريسه كحاضر، بل هي حضارات قامت على إلغاء وجود الماضي في الحاضر والذهاب بعيداً لخلق مستقبل مختلف يكون حاضراً يتحقق من خلاله إنجاز بشري تناول شتى نواحي الحياة الإنسانية، وتجلى في التطور والانتقال من حال إلى حال مغايرة، انفتح فيها التفكير وتحرر العقل من القيود، أي أن الجلوس في الماضي ما كان ليحقق لتلك الشعوب في بقاع الأرض المختلفة أية نقلة على الصعيد البشري، بل ولربما انقرضت، لولا أن هناك من حملوا المصابيح وفتشوا في الماضي جيداً، تزودوا منه بما يصلح من المعاني الإنسانية العميقة المنحازة إلى الصدق والمحبة والقوة والتسامح، وانطلقوا ليبنوا حاضراً جديداً، ويغيروا واقعهم المرتكز على الماضي، وإلى الأبد.
يشكل السكن في الماضي أحد أكبر أزمات الشرق الأوسط والعالم الثالث عموماً، حيث لا يعود الحاضر ملموساً ولا المستقبل له ضوء يغري الأجيال بالانجذاب إليه، فالمشهد الذي ينقل كل يوم من تلك المنطقة خال من الإنجازات، من الابتكارات من الإبداع تقريباً.
المشهد الذي ينقل كل يوم من الشرق مليء بالدم والخوف والقمع والقهر، تشدد وتحزب وتقوقع وسكن في الماضي والدفاع عنه كأنه حقيقة، ولأجل ذلك الماضي يستباح كل شيء، لا أحد لديه القدرة على القفز في الحاضر لصنع مستقبل مختلف، ولا أحد في تلك الجماعات يرى أي شيء مختلف سوى جعل الماضي مستقبلاً، فيما العالم الذي يؤمن بالتطور يمضي بعيداً في حداثته وتطوره ونجاحاته في شتى مناحي الحياة.
فإلى متى سيبقى هذا الشرق ينتقل من حرب إلى حرب، ومن تطرف إلى تطرف، إلى متى ستبقى تفاصيل الماضي بكل تشعباته وأخطائه تسكن الحاضر؟!