فصيح الغناء
لا أزال على اعتقادي أن محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ارتفعا بشأن الأغنية المصرية، ومن ثم العربية، عندما ابتعدا عن الكلمات والمعاني المبتذلة التي كانت شائعة قبلهما، وعقدا زواج الأغنية بالشعر الفصيح. وكان لكبار الشعراء في عصرهما فضل في ذلك، خصوصا أحمد شوقي الذي جذب أم كلثوم لشعره، فغنت له عددا من روائعه التي أذكر منها:
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء
كما غنت له «نهج البردة» الخالدة وغيرها من القصائد ذات الطابع الديني التي ترتقي بالشعر، كما ترتقى بالغناء، وتدفعه في معارج الروح والوجدان إلى أعلى مكان. ولم تنس أم كلثومغناء روائع أخرى لشوقي، منها قصيدته في «النيل» التي مطلعها:
من أي عهد في القرى تتدفق
وبأي كف في المدائن تغدق
وهي قصيدة لا أمل من سماعها. ويبدو أنه كان عليّ الانتظار طويلا، لكي أعرف أن أم كلثوم كانت تستبدل أحيانا كلمة لا يسهل عليها نطقها في مسار النغم، وتضع محلها كلمة أخرى أسلس منها وأعذب وقعا. ولم تفعل أم كلثوم ذلك مع أحمد شوقي، وإنما كررته مع من جاء من بعده، مثل أحمد رامي الذي أطلق عليه شاعر الشباب، ولم يكن ذلك نسبة إلى شبابه، وإنما إلى مجلة «الشاب» التي أبرزت شعر رامي في ذلك الوقت، خصوصا قبل أن يعرف رامي أم كلثوم، ويظل متعبدا في محرابها النغمي. وكان مثل رامي إبراهيم ناجي الشاعر الذي غنت له «الأطلال» التي دمجت فيها قصيدة ناجي الأصلية بقصيدة أخرى من الوزن نفسه، وذلك دون أن يشعر السامع للقصيدة بهذا الدمج وبهذه الكلمة التي استبدل بها غيرها، وذلك بعد أن ينطلق الخيال السمعي مع أم كلثوم منذ أن تترنم بالمطلع:
يا فؤادي لا تسل أين الهوى
كان صرحا من خيال فهوى
وعبد الوهاب هو الحالة الموازية لأم كلثوم، ولكن علاقته بأحمد شوقي كانت أكثر خصوصية وحميمية. ولا أمل من سماعه وهو يغني:
جبل التوباد حياك الحيا
وسقى الله صبانا ورعا
أو وهو يغني أحد مشاهد مجنون ليلى مع أسمهان، منطلقا وحده في النهاية:
سجى الليل حتى هاج لي الشعر والهوى
وما البيد إلا الليل والشعر والحب
ولم يغن عبد الوهاب من مسرحية «مجنون ليلى» فحسب، بل أضاف إليها مونولوج:
أنا أنطونيو وأنطونيو أنا
ما لروحينا عن الحب غنى
واللافت للانتباه أن أحمد شوقي لم يكتب لعبد الوهاب قصائد كلاسيكية عمودية بالفصحى فحسب، وإنما أضاف إليها الكتابة بالعامية، فهو صاحب «النيل نجاشي» و»الليل لما خلي» وغيرها من الأغنيات التي أكد بها شوقي أنه أمير الشعراء حتى في العامية التي ارتقت إلى شعرية شوقي العالية. وأعتقد أن هذه القصائد العامية كانت محاولة رائدة وضعت أفقا فريدا من الغناء بالعامية، كان له أكبر الأثر في الارتقاء بالأغنية المصرية العربية: فصحى وعامية.