كتابة حمراء
هي الكتابة التي تتخطى الخطوط الحمراء. الآن، عليك أن تعرف ما هي هذه الخطوط. وغالباً حين تنفتح مغالق الكتابة في رأسك فتتدفق وتنهمر على الورق حروفاً تُسوّد الصفحة تلو الأخرى، تصاب بعمى الأحمر. فلا أنت تراه ولا أنت تُحسه ولا أنت تصدق بوجوده، حتى يأتيك هاتف الرقيب المزروع في رأس قارئك، سواء كان صديقاً، أو عائلة، أو محرراً أدبياً، أو عين قارئ عادي لا تعرفه. في رأس كل قارئ منهم رقيب مختلف بخطوط حمراء مختلفة. بناء على خلفيته الثقافية ومحيطه وبيئته وتراكماته النفسية وماذا شرب ليلة البارحة وكيف كان غداؤه قبل أن يقرأ وما إن كان في مزاج جيد وحساسيته تجاه مديره في العمل وأيام اضطهاده في المدرسة وخيبات سنين المراهقة.. إلخ.. إلخ.. فمن يرى فيما كتبت تخطياً لخط العلاقة بين البشر وبعضهم، أو بين البشر والسلطة، أو بين البشر وخالقهم. فتدور في رأسك الشكوك، وتعيد قراءة ما كتبت فتستنكر التهمة وتنكرها وتدافع عن نيّتك وقصدك، ثم مع إلحاح صوت الرقيب على أنك تخطيت وتعديت وتماديت تبدأ في التصديق بذنبك والاعتراف به والاعتذار عنه والتوبة والرجوع عنه... فتكتب بالتفاف وتكتب دون أن تقول شيئاً حتى تتوب نهائياً في النهاية وترجع عن الكتابة: الخط الأحمر الأعظم.
ماذا تكتب؟ لو فكرت في كل ذلك لن تكتب شيئاً، ستشتري السلامة وكيس فوشار تذهب به إلى صالة سينما مظلمة تشاهد فيلماً هوليوديا مبهراً بصرياً لا يقدم لك سوى إبهار النظر دون تحريك أي خلية في فكرك أو إضاءة أي عتمة في بصيرتك. وربما تختار فيلماً بوليودياً يضمن لك ساعات أطول من ضياع الوقت. وتعيش لتقضي وقتك فقط.
ماذا تكتب لو فكرت برأس كل قارئ لك. وتركت ما يدور برأسك؟ أليس هذا ما روّج لممارسة قطع الرؤوس فعلياً الآن؟ الممارسة التي يشتكي منها العالم أجمع ويُعلن جزعه في حين يتركها تستمر بلا رقيب. فالرقيب منشغل طوال الوقت بتجفيف الحروف من الرحيق لتخرج بلا نكهة ولا صوت فلا تترك أثراً ولا تُردد صدى. لماذا نخاف من الاعتراف بالحقائق؟ أليس الاعتراف أول خطوات العلاج؟ أليست كل هذه الخطوط الحمراء مجرد استمراء للعيش في حالة الإنكار الأزلية؟. لماذا لا نسمي الأشياء بمسمياتها، ونقول في العلن ما نقوله جميعاً، وبلا استثناء، في الخفاء؟ أليست الكتابة الحقيقية هي تكريس للحياة بوجه واحد؟ كيف يكتب من يحيا بوجهين؟ ألن تكون مجرد غثاء لا قيمة له سوى إهدار ورق الشجر؟. إن لم نكتب كما نحس حقاً، وإن لم نطرح التساؤلات التي تدور بعقولنا، التي قد تكون تساؤلات جارحة، كيف سنداوي الجرح؟ أو كيف سنترك أثراً في عالم الأدب العظيم الذي لا يعترف إلا بالصادقين مع أنفسهم ويترك الباقين يهرولون إلى مستنقع النسيان الآسن دون رجعه. الحياة تأتي مرة واحدة، وتستمر للأبد فقط لمن عاشها بصدق. والكتابة لن تعترف إلا بحياة حقيقية تُنزف على ورق. دعوا الورق يتنفس، وستُفاجأون كم هو صديق وغير مؤذٍ إطلاقاً، إنها أوهام الخوف فقط. كمن يخشى وخزة الحقنة ويظل يهلوس بالألم الذي سيحسه حين تُغرز فيه، ولن ينتبه إلا حين يقول الطبيب «ها قد انتهينا»، فيسري الدواء في عروقه دون الألم الذي توقعه. الكتابة حياه تتنفس على الورق، وورق تنفست عليه حياه حقيقية يُسهم في زيادة منسوب الأكسجين في الحياة الواقعية. وحياة واقعية عفيّه هي الضمان الوحيد لبقاء الرؤوس فوق الرقاب وبقاء الأرض تحتها دون بُقع حمراء تُدمي القلب وتُخزي وجه الإنسانية.