محظوظ من يملك القدرة على البكاء، فالبكاء في كثير من الأحيان ضرورة، ولا أصعب ولا أقسى على الإنسان من أن يرغب في البكاء ولايستطيع إلى ذلك سبيلاً، تحتبس الدمعة خوف أن تُرى في العين، فتذهب الرجولة التي تقضي بأن الرجال لا يبكون، فهم كالجبال لا تهزهم رياح عاتية، لأن البكاء ملكية خاصة للنساء والضعفاء، أو تتجمد في المآقي حيرى، لا هي قادرة على مفارقة محجرها حارقة القلب قبل العين، ولا هي نازلة تريح وتستريح، أو تختنق بعبرة فتتلَجْلَجُ نشيجاً في الصدر وخفقاناً إثر خفقان، شهقةً بعد شهقة، تكاد تستل الروح على حين غرّة! ليس صحيحاً أن البكاء للنساء فقط، وأن الدموع تفقد الرجولة، لأن البكاء ليس ملكية خاصة للنساء، فكم من رجال أشاوس شجعان سالت دموعهم، بل وغابوا عن الوعي، خشية من الله، ورأفة بالعباد. الدموع لغة إنسانية عالمية واحدة، فلا دمعة شرقية أو غربية، فالدموع في عيون الناس جميعاً واحدة، لونها واحد، وطعمها واحد، وطريقها واحد! حقيقة البكاء أن القلب هو من يبكي قبل العين وحين يفتعل الإنسان الحزن ويبكي بلا قلب تكون دموعه كما يقال دموع التماسيح! ولا شك في أن دموع المرأة أسرع منها عند الرجل، وهي سلاح فتّاك تستعمله لكسب حب الرجل وتطويعه، ولديها منه المزيد، فينابيع العين من الدموع عندها لا تنضب.. قيل في ترتيب البكاء إنه إذا تهيأ الرجل للبكاء قيل: أجهش فإن امتلأت عينه دموعاً قيل: اغّرَوْرَقَت عينه وتَرَقْرَقَت فإذا سالت قيل: دَمَعَت أو هَمَعَت، فإذا حاكت دموعها المطر قيل: هَمَت، فإذا كان لبكائه صوت قيل: نحب ونشج، فإذا صاح مع بكائه قيل: أعْوَلَ. يبكي الإنسان، خوفاً وخشيةً من ربنا، ورحمةً ورقةً، ومحبةً وشوقاً، وفرحاً وسروراً، وجزعاً وألماً، وحزناً، وخوراً وضعفاً، ونفاقاً بدمع من قلب قاس، ونواحاً ومستأجراً! ويختلف بكاء الحزن عن بكاء الخوف بأنه يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب، أما بكاء الخوف فيكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك، ويختلف بكاء السرور والفرح عن بكاء الحزن بأن دمعة السرور باردة والقلب فرحان، ودمعة الحزن حارة والقلب حزين، ولهذا يقال لما يُفرح به هو «قرة عين» وأقرّ به عينه، ولما يُحزن: هو سخينة العين، وأسخن الله به عينه. والبكاء من خشية الله تعالى أصدق بكاء تردد في النفوس، وأقوى مترجم عن القلوب الوجلة الخائفة. والبكاء الكاذب، بدموع التماسيح. البُكاء لغة يقصر ويمد إذا مَدَدْتَ أَردتَ الصوتَ الذي يكون مع البكاء. بكا وبكى من قصره ذهب به إلى معنى الحزن، ومن مدّه ذهب به إلى معنى الصوت. نزار قباني: مرحباً يا عــــراقُ، جئــتُ أغنّيــكَ وبعــضٌ مـــن الغنــــــــاءِ بــكاءُ مرحبــاً، مرحبــاً.. أتعــرفُ وجهــاً حفرتـــــهُ الأيّــــامُ والأنــــــــواءُ؟ أكلَ الحـبُّ من حشـاشـــةِ قلبــي والبقايــــا تقاســـمتها النســــاءُ كلُّ أحبابــــي القدامــى نسَـــوني لا نُوارَ تجيــــــــبُ أو عفـــــــــراءُ فالشــــــــفاهُ المطيّبـــاتُ رمــادٌ وخيـامُ الهـــوى رماهـــا الهــــواءُ ســكنَ الحـزنُ كالعصافيـرِ قلبــي فالأســـى خمــرةٌ وقلبـــي الإنـــاءُ أنا ـــجرحٌ يمشـــي على قدميــــهِ وخيولــي قــد هدَّهـــــا الإعـــياءُ ? بالفصيح: دموع المرأة سلاح صالح لكل زمان لم ولن يفقد صلاحيته!