الرسم مادةً للسرد
تتميز الرواية الحديثة بأبطالها المثقفين، شخصيات تتحدث بالشعر وترتاد معارض الرسم، بل يصبح بعض الرسامين شخصيات رئيسة للروايات، وقد شاعت ثقافة الشخصية كجزء من أبعادها التي كانت في السرد التقليدي لا تتعدى التعريف بتاريخها، وانتمائها الاجتماعي، وطبائعها، وتعليمها في ابعد الأحوال تعمقا· فضلا عن مؤازرة نظرية الأدب لهذا الاقتراض النوعي، فالنقاد يكررون انفتاح النصوص على مزايا أنواع أخرى محايثة لها، وهو ما يوصف عادة بزوال الحدود بين الأنواع والأجناس الأدبية والفنية·
في رواية محمد خضير الوحيدة ''كراسة كانون'' 2003 يكتب الراوي صاحب الكراسة ـ وهو رسام ـ مذكراته عن ليالي الحرب في كانون الثاني عام 1991 وينهيها نهاية رمزية ليلة 13 شباط 2001 الذكرى العاشرة لتدمير ملجأ العامرية فوق أجساد الأطفال والنساء والشيوخ النائمين فيه هربا من القصف الليلي للطائرات الأميركية·· وهو ما يذكر بجدارية غورنيكا لبيكاسو··
بهذا تتطابق اليوميات مع عتبة الرواية الأولى المأخوذة من قول للفنان غويا ''عندما ينام العقل تستيقظ الوحوش''، وهو ما جسّده الفنان في كثير من أعماله، ومنها إعدام الثوار، يقول الرسام العراقي صاحب الكراسة إنه سيتكلم بأحلام غويا، أحلام العقل والجنون، فيتخيل ـ كلما أغارت الطائرات على المدينة ـ صفيرا حادا ينبعث من جمجمة كبيرة كإنذار يرسله برج ضخم ـ البرج والمتاهة فضاءان يتكرران في قصص محمد خضير ـ وتلك الإشارات المقتبسة من غويا وبيكاسو وهنري مور تتوالى في الفصول المرقمة من الرواية، ويطالعنا شرح لأعمال الفنانين الثلاثة، فكأن الكاتب يريد ربط الحرب بذاكرة البشرية التي تحتفظ بالجرائم المشابهة مع تبدل الفاعلين!
لقد تحدث محمد خضير في أحد نصوصه عن إمكان كتابة عمل شبيه بلوحة تكعيبية·· نص مرسوم بأكثر من وجه وسطح، يمكن للقارئ متابعته كما يرى لوحة من جهات متعددة في الوقت ذاته· وبهذا ينعكس الكاتب في نصه المكتوب كما ينعكس الرسام في لوحته متعددة السطوح والوجوه·
وفي ''سر السرمدية'' لعبدالخالق الركابي سنجد معالجة تشكيلية واضحة، حيث يقدم الركابي شخصية الرسام المقعد، وتدور أحداث كثيرة في مشغل الفنان· وتتناغم حوارات الرواية وتسلسلها الحدثي مع الرسوم التي يعرضها أو تلك التي يحتفظ بها في مرسمه·· ويكون وجوده كرسام جزءا أساسيا من تحولات الرواية ومصائر شخصياتها···
ويمكننا القول أخيرا إن دراسة التأثرات البصرية في الرواية تكشف الحس التشكيلي في السرد حتى دون مسميات فنية صريحة، لأن إيقاع الأعمال يخبئ توافقات وتلوينات متناغمة لا يمكن فهمها إلا باستدعاء ثقافة فنية، صارت جزءا من تكوين الشخصيات في السرد لأنها داخلة أصلا في تكوين الكتّاب ومؤهلاتهم··