جيفارا الشاعر
حين يكون الحديث عن رجل يشعر بأنه مسؤول بشكل أو بآخر عن أي اضطهاد، أو ظلم يقع، في أي مكان على الأرض! فإنه هذا رجل وإنسان بحق، بل في أعلى درجات الإنسانية، بحيث لا يرضى الذلّ لغيره، كما لا يرضاه لنفسه!
وهو مناضل حقيقي لأنه يبذل في سبيل رفع الظلم أغلى ما يملك، روحه ودمه، يضحي بنفسه، لا في وطنه فحسب، بل في كل أنحاء الأرض، ويغدو العالم بأسره والأرض كلها وطناً!
وحين يكون في داخل هذا المناضل روح شاعر، بالتأكيد سيكون الحديث عندها عن أسطورة، في شكل إنسان!
تلعب السينما اليوم دوراً تثقيفياً مهماً جداً، ولها لغة ساحرة، ومهمة لا تقل عن مهمة الفنون الأخرى، وأظن أن مهرجان أبوظبي السينمائي في دورته الرابعة خطوة أخرى متقدمة تستحق من هيئة الثقافة والتراث المتابعة، والتطوير، والاستفادة من السلبيات في كل عام، ومن المتابعين الإشادة والتقدير، ومن حسن حظ الجمهور في أبوظبي أن يعرض عمل ضخم كهذا، في مهرجانها السينمائي الذي يتطور عاماً بعد عام، لأهمية الشخصية المتناولة، ودورها النضالي في العالم ، والأهمية الأدبية الشعرية لصاحبها التي لم يسلط عليها الضوء، إلا فيما ندر.
يكاد يختزل المناضل الشاعر أرنستو تشي جيفارا اليوم بصورة بقبعته «البيريه» وشعره الطويل، ولكنه اليوم وبعد فيلم «تشي رجل جديد» بالفعل في نظرنا رجل جديد، بل وشاعر جديد!
لا أدري لماذا أشعر بالغبطة والاعتزاز، ربما لأن الشعر قد ربح اليوم ثائراً حقيقياً، لأن انضمام هذا المناضل إلى سجل الشعراء فخرٌ للشعر والشعراء، ولطالما تفاخر الشباب بوضع صورته في دفاترهم، وعلى قمصانهم، رمزاً للنضال والثورة، ثائر، فإنه يحق لهم أن يفخروا به اليوم شاعراً أيضاً.
أحرص دائماً على متابعة أفلام مهرجانات السينما، باعتبار أن نخبة الأفلام العالمية تقدم فيها، وفي ذلك فرصة للاطلاع عن قرب من صناع هذه الأفلام على وجهات نظرهم في أعمالهم ورؤاهم، لأفلامهم، وبوجه خاص، الأفلام الوثائقية، والاطلاع على ثقافات الشعوب، وآدابها ولغاتها وعاداتها.
وقد قرأت عن فيلم أرجنتيني يتناول حياة المناضل تشي جيفارا الذي أصبح أسطورة تروى إلى اليوم، اسمه «تشي -رجل جديد»،من إخراج المخرج الأرجنتيني تريستان باور، وفيه تسجيلات ومشاهد ووثائق ومخطوطات لم يسبق نشرها.
تكاد تكون لغة الفيلم هي الأروع ، ويحسب للقائمين على المهرجان الترجمة المتميزة جداً من الإسبانية إلى العربية، فقد أتت لغة سهلة منسابة ، عبرت عن روح الشاعر في قلب المناضل الذي طالما عرف بثوريته، ولكن هذا الفيلم الوثائقي المهم، سلط الضوء على غيفارا الشاعر الذي تلازم مع المناضل فقد امتلك لغة شاعرية أخاذة آسرة، لا تقل عن الشعراء الآخرين، وبدا شاعراً رزيناً مرهف الإحساس في شريطه التسجيلي وهو يقرأ أشعاراً لسيزار فاييخو في رسالة وداع إلى زوجته قبل انطلاقه إلى الكونغو، ويشكل إلقاء أرنستو تشي جيفارا بصوت رزين عام 1965 أبيات شعر حزينة من كتاب «الرسل السود» للشاعر البيروفي سيزار فاييخو، فضلاً عن أشعار للتشيلي بابلو نيرودا أمراً جديداً من أمور كثيرة يكشفها الفيلم الوثائقي.
وقد بقيت هذه الوثائق التي كشفها الفيلم مدة 23 عاماً محفوظة على أنها أسرار دولة في خزائن المصرف المركزي البوليفي.
غيفارا أي رجل أنت؟ بل أي شاعر!
لم يطرب مزمارك أهل حيّك البوليفيين..
لكنه أطرب الأحرار في العالم وكل المظلومين ..
بالأمس ملأت الأرض حرية باسم جيفارا، واليوم يفوح عبق روحك أشعاراً.