الخروج عن المألوف، والعادي، والتقليدي يحتاج إلى تضحية وإلى فراسة عقل وصلابة إرادة، وقوة عزيمة، ونعمة بديهة.
فليس كل مألوف ومعترف به اجتماعياً صحيحاً وبلا أخطاء وأرزاء، وليس كل تقليدي يحمل من الحقيقة كبدها وعقلها. الأمر الذي يفرض على الإنسان المخالف أن يكون جلداً، صلداً، جاداً، ومخلصاً فيما يعتقد وينوي الانتماء إليه.
سقراط، وكوبر نيكس، وجاليليو، من الرجال العظماء الذين واجهوا التسلط والغطرسة، والفتك والتنكيل بقلوب خضراء لا تصفر، وعقول شماء لا تعسر، لأنهم كانوا يؤمنون أن المياه الآسنة لا تتحرك إلا بنشاط كوني، يجعلها فذة وحية ونابضة بالحياة.
بعض البشر يصرون على خداع الذاكرة، ويعمون على الارتكاز على مخيلة جامدة، لا حياة فيها، وإن عورضوا شعروا بالاستفزاز، فامتشقوا سلاح العصبية الجاهلية، وساموا من يعارضهم بأقذع الأوصاف، وأفظع النعوت، معتقدين أنهم وحدهم الذين يملكون صكوك الغفران ومفاتيح الجنة ولا يحق لغيرهم أن يفكر ويتدبر ويتعبد، مع أن العقيدة السمحاء دعت الإنسان لأن يفتح باب الخيال من أوسعه، وأن يشرع النوافذ لكي تدخل النسائم العليلة وتطرد ثاني أكسيد الكربون ليبقى هواء الحياة صحياً نقياً في عصرنا هذا، هناك نوع من البشر من يريد أن يختصروا الأحلام ويبتسروا الأمنيات ويفقروا العقل، ويفرغوا الذهن من مضمونه ليتحول إلى مجرد وعاء أجوع، خالٍ من المعنى والمغزى.
في عصرنا هذا هناك نوع من البشر يريد من المجتمعات أن تتجمد عند نقطة الصفر، فلا حراك فيها ولا عقل غير عقل الحنق والحقد والنكد والكدر، ومثل هذه المعتقدات لا تؤسس لمجتمعات حضارية ترق إلى مستوى التقدم والازدهار، وتفجير الطاقات وتحريك الكامن في النفس.. مثل هذه الذهنية البلدية لا تقود الناس إلا إلى دوائر مغلقة، ومحاور مرهقة، لا تقدم، بل تؤخر، لا تبني، بل تقفر، لا تصنع جيلاً واعياً، بل تحول الإنسان إلى آلة قديمة صدئة يعبث بها الزمن ويجلدها الغبار.. مثل هذه الأفكار لا تصلح لإنعاش حياة ولا تفيد لتجديد دماء، أو تشييد بناء.. المغالاة في التكلس حدس عنيد بليد لا يفرز إلا صديد مراحل غابرة، منكسرة، مندحرة.


marafea@emi.ae