مع أن جمهور النقاد يربطون عادة بين الشعر والشعور، نجد اليوم من يتحدث عن الفكر الشعري والرؤية الماثلة فيه، مفيدين من الأبحاث العلمية المحدثة التي تكشف عن وظائف المخ وتحكمه في مراكز العواطف. ومع أن الحقائق العلمية لاتزال تتكشف عن العلائق الموصولة بين مراكز الإحساس ومصادر العواطف فى بينية متواشجة لا تخضع للتوزيع الحاسم فإننا لا نستطيع نبذ الخبرات الحيوية والجمالية في التجربة الإبداعية، وليس بوسعنا تكذيب الشعراء في حدوسهم الملهمة. وقد درج هؤلاء على الربط بين تقلبات المناخ وتحولات الأمزجة والمشاعر، فخصوا نسمات الريح بتسميات محدودة؛ فالصبا ريح تهب من مشرق الشمس عندما يستوي الليل والنهار، وهي تمتزج بالصبوات العاطفية صوتيا ودلاليا، وهذا شاعرنا لسان الدين بن الخطيب في المقطع السابع من موشحته يقول: ما لقلبي كلما هبت صبا عاده عيد من الشوق جديد كان في اللوح له مكتتبا قوله: إن عذابي لشديد جلب الهم له والصبا فهو للأشجان في جهد جهيد فالشاعر يتساءل عما يعود إلى قلبه من شوق متجدد كلما هبت ريح الصبا، ويراوح فى شعوره بين العذاب والبهجة، وأبياته تستحضر بالضرورة بيت المتنبي الشهير: عيد بأية حال عدت يا عيد لما مضى أم لأمر فيك تجديد فهي تتضمن عود الشوق وتجديده معا، ويسمى هذا العود عيدا بقصدية تعتمد على المفارقة، فذاكرة الشعر تختزن الأصوات والإيحاءات عنوة، وتعيد توظيفها في حوار متصل. وهنا يتراءى للشاعر ان يجلب من هذا العود ما يشي بقسوة الأقدار، مما كان حاضرا في وجدان المتنبي بقوة، فابن الخطيب يستحضر بالتوازي مع التراث الشعري المكتوب مستويين، مستوى الضمير الجماعي في إيمانه بالقدر، ومستوى النص القرآني في الآية الكريمة “إن عذابي لشديد”، فالوعيد الذي يتربص بالشاعر يجلب له الهم والكرب والوصب، يغرقه في أشجان لا يقوى على دفعها مهما قاومها. وعلى كثرة الأوصاف التي ترد عن الأشواق اللاهبة، فالشاعر لا يبوح أبدا بطبيعتها أو سببها، لأن أعنف الهم ما أعجز تفسيره، وكلما اندمغت العواطف كانت أشد وأقسى، وهو يعود إليها في القفل: لاعج في أضلعي قد أضرما فهي نار في هشيم اليبس لم يدع في مهجتي إلا دما كبقاء الصبح بعد الفلس واللاعج هو الهوى المحرق تضرم ناره في الأحشاء فتأكل هشيمها اليابس، فلا تدع في المهجة إلا خيطا من الدماء المختلطة بغيرها، مثلما يتبقى من خيوط الليل الشفقي في الفلس عند امتزاجه في ضوء الصباح، ويظل هذا الإيهام الشعري هو القادر على تجسيد المعادل الطبيعي للحالة النفسية الغالبة على الشاعر.