البهلوان
من غير المجدي إدانة هذا الرجل. مضيعة للوقت البحث في نتاجه وسيرته عما يثبت تهافته ويؤكد بهلوانياته. كل تهشيم فكري لطروحاته يجعله يذوب طربا، وكل شتيمة لسلوكه تدفعه إلى الرقص فرحا. هو نفسه ينهال على نفسه بتوصيفات مقذعة، بالطريقة نفسها التي يجيدها الإسكافي مع الأحذية القديمة.
من دون أن تبحث عنه تجده أمامك: في المنتديات الثقافية، والبرامج الحوارية، وأخبار الثوار والميادين.. وأيضا في صفحات الكتب الجديدة، وآخرها واحد عنه بقلمه. هو جوهر “الخديعة الثقافية” بحسب تسمية فلاسفة كبار مثل جيل دولوز وجاك دريدا، و”أمير الفراغ” بحسب تسمية الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس، أو “منظّر الربيع العربي” كما يحلو لمثقفين “وثوار” عرب تسميته.
برنار هنري ليفي، الذي ذاع اسمه من مدينة بنغازي الليبية خلال ثورتها ضد العقيد، والذي رعى مؤتمرا للمعارضة السورية في باريس، يقول عن نفسه ما لم يقله مالك في الخمر. ففي كتاب جديد (صدرت طبعته الإنجليزية قبل أيام بعنوان “أعداء الشعب”) ينشر ليفي وصديقه الروائي ميشال ويلبيك مراسلاتهما حول قضايا متنوعة، يستهلانها بالقول: “نحن كلانا شخصان محتقران”. يقول ويلبيك عن صديقه إنه “فيلسوف بلا فكرة أصيلة ولكن لديه ارتباطات ممتازة”.
يحمل ليفي، الوريث الثري والناشر ورجل الأعمال والسينمائي والروائي الفاشل والمستشار السياسي، خطأ لقب فيلسوف. وهو لقب صنعته وسائل الإعلام له منذ أن أطلق في العام 1976 حركة الفلسفة الجديدة في فرنسا. وهي حركة لم تضف إلى، ولم تلغ من، المنجز الثقافي الفرنسي العريق. ومن يراجع قائمة مؤلفات ليفي الـ 38 خلال الـ 38 عاما الماضية، يلاحظ أن أكثر من 30 منها هو تجميع لمقالات سياسية مباشرة, وإن الكتب الفكرية الباقية كانت سطحية بشكل عام ابتداء من كتابه الأول “البربرية بوجه إنساني”.
جلد الذات الذي يمارسه ليفي (وصديقه) في كتابهما الجديد، هو نوع من تحصين النفس ضد الهجمات الجادة، التي تكشف عوراته السياسية وتدحض منظومته الأخلاقية. فسليل العائلة اليهودية، المولود في المستعمرة الفرنسية الجزائر، تروق له كثيرا صورة الفيلسوف أندريه مالرو إلى جانب الجنرال ديغول، رغم بعد المسافة بينه وبين صاحب “الشرط الإنساني” كما هي المسافة نائية بين محرر فرنسا والرئيس نيقولا ساركوزي.
خبرة ليفي الفلسفية لا تتجاوز لعبة البروباغاندا السياسية. فقد حقق نوعا من التزاوج بين وهم الفلسفة وصلف السياسة. وهي تركيبة لها معادل آخر في شخصية ليفي، هي الجمع بين يسارية الفكر الفلسفي ويمينية الموقف السياسي. وليس مهما أن تكون تلك المعادلة قابلة للحياة، لكنها ضرورية جدا لتسويغ سياسات حكومة ساركوزي في الداخل والخارج.
ومع ذلك لم ينتبه كثير من المصفقين العرب لبرنار هنري ليفي، أنه عند نقطة معينة تتوقف بهلوانياته الإعلامية. أو بشكل أوضح تتضح بأنها شخصيته المصنوعة التي “يبيعها” للعرب. أما شخصيته الحقيقية فهي تلك التي عبر عنها بخطابه في مؤتمر يهود فرنسا، ونقلت صحيفة “لوفيغارو” قوله فيه: “لقد شاركت في الثورة الليبية من موقع يهوديتي.. لم أكن لأفعل ذلك لو لم أكن يهوديا.. لقد انطلقت من الوفاء لاسمي وللصهيونية ولإسرائيل”. وقبل ذلك، في مايو 2010، كان ليفي يطري في مؤتمر “الديمقراطية وتحدياتها” في تل أبيب على الجيش الإسرائيلي الديمقراطي (كذا) يقول: “لم أر في حياتي جيشا ديمقراطيا كهذا يطرح على نفسه هذا الكم من الأسئلة الأخلاقية. فثمة شيء غير اعتيادي في الديمقراطية الإسرائيلية”.
حقا، ثمة شيء غير اعتيادي في الثورات العربية.
adelk58@hotmail.com