الواقعية الاشتراكية
عاش جيلي لعقدين من الزمان -على الأقل- معتقداً في أهمية «الواقعية الاشتراكية»، تلك التي كان نموذجها الأشهر رواية «الأم» لمكسيم جورجي في الأدب السوفييتي، ورواية «فونتمارا» للكاتب الإيطالي إيجنازيو سيلوني التي كانت هي الأصل الذي صاغ على مثاله الكاتب المصري عبدالرحمن الشرقاوي رواية «الأرض» التي تحولت- بدورها- إلى فيلم شهير من إخراج يوسف شاهين.
و«الواقعية الاشتراكية» هي المذهب الأدبي الملازم للماركسية، والمنحاز إلى الطبقة العاملة والمعذبين في الأرض بوجه عام، وهي أوضح ما تكون في الرواية التي تتولى تصوير نضال الطبقات الكادحة ضد الطبقات التي تستغلهم وتمتص دماءهم، ولابد أن يكون البطل فيها إيجابياً، وتعكس الرواية رؤية متفائلة تؤذن بانتصار الطبقة العاملة بوجه خاص، والكادحة بوجه عام. وقد تم إعلان «الواقعية الاشتراكية» مذهباً أدبياً رسمياً للإبداع الاشتراكي سنة 1934، في مؤتمر الأدباء الشيوعيين في الاتحاد السوفييتي. وتولى صياغة مبادئها الأساسية في هذا المؤتمر كل من مكسيم جورجي صاحب رواية «الأم»، وأندريه جدانوف الذي يرتبط اسمه أوثق الارتباط بتاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، حين كان هناك اتحاد سوفييتي، وذلك من حيث تمسكه الصارم والحرفي بمفاهيم ستالين عن الأدب والفن. وكان جدانوف منفذاً مخلصاً للسياسة الستالينية، وخاصة تجاه قضايا الفن. ويطلق عليه كثيرون لقب «سفاح الثقافة» لما ارتكبه من جرائم قمع في حق الأدب والفنانين. ولذلك ينتسب إليه ضيق الأفق المذهبي في الأدب، تحت اسم الجدانوفية. وقد ظلت هذه النزعة الجدانوفية سائدة في الأدب السوفييتي، منذ سنة 1934 إلى سنة 1953، وهي السنة التي مات فيها ستالين. وبموته بدأت الجدانوفية تفقد نفوذها. وكانت العلامة الأولى لذلك نشر رواية إيليا إهرنبورج «ذوبان الثلوج» سنة 1954.
أما في العالم العربي، فقد ظهرت الجدانوفية بعد انتهاء الحقبة السوفييتية الستالينية، وذلك في كتابات محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس في كتابهما «في الثقافة المصرية» الذي هاجم كل أشكال الواقعية القديمة، واتخذ موقفاً سلبياً من نجيب محفوظ بوصفه كاتب «البرجوازية الصغيرة»، بينما قام الكتاب بالتهليل لرواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي الذي كان محسوباً على الرفاق الشيوعيين في ذلك الوقت. ولكن ما حدث في «الواقعية الاشتراكية» التي هجرها السوفييت بعد وفاة ستالين، في سياق تحولات المذاهب الأدبية، حدث معها في مصر والعالم العربي، خصوصاً مع انفتاح اليسار علي الفكر المفتوح للأحزاب الشيوعية الأوروبية. ولذلك سرعان ما ترجم كتاب روجيه جارودي «واقعية بلا ضفاف» إلى العربية بعد سنوات معدودة، من صدور الأصل الفرنسي سنة 1957. وكانت النتيجة أن هجر محمود العالم أفكار «الواقعية الاشتراكية» التي انداحت في أمواج المذاهب الأدبية الجديدة.