البطريرك
ربما يكون هو الوحيد، بين أعلام الإبداع، الذي يكره أن يكتب سيرة ذاتية. ومع ذلك، فإن أغلب مؤلفاته هي سيرة ذاتية أو ما يشبهها. عذّب غابرييل غارثيا ماركيز الأكاديمي الأميركي جيرالد مارتن طيلة سنوات، وهو يعد معه كتابا عن سيرته الذاتية. جلسات طوال، كان ماركيز يعيد في كل مرة صياغة أفكاره، أو رواية الوقائع بطريقة مختلفة أو متناقضة. كل ذلك لأنه يؤمن بأن السيرة الذاتية “تؤلّف بعد أن نموت”. وهو عندما أراد أن يكتب سيرته الذاتية بنفسه، في كتابه الرائع “نعيشها لنرويها”، فإنه في الحقيقة كان يروي حضوره بين الآخرين، أو حضور الآخرين في حياته. ولهذا آثر أن ينهي الجزء الأول عند حدود سنة 1957، مبقيا الجزءين التاليين طيّ التخمين.
يحتفل كثيرون بالعيد الخامس والثمانين لصاحب “مائة عام من العزلة” هذا الأسبوع. وقد يطفئ كثير من الأصدقاء والمحبين الشموع نيابة عنه، لأنه يمقت “الأعياد الإجبارية”، ولو ترك الخيار له، فإنه سوف يشعل شمعة بدلا من إطفائها. سوف يستدعي كل شخوص رواياته لكي يستمد منها قدرتها على البقاء.
لقد جعل ماركيز من أغلب شخوصه، في أكثر رواياته، شخوصا دهريين. يعيشون أكثر مما يستحقون، أو يريدون، أو يتوقعون. ابتداء من العقيد أورليانو أركاديو بوينديا، البطل الأسطوري في أعوام العزلة الشهيرة. عاش هذا العقيد في عاصفة من النار وبحر من الدماء. ذُبح أولاده الذكور السبعة عشر في ليلة واحدة. نجا من أربع عشرة محاولة اغتيال و63 كمينا. عاش طويلا قبل أن يضعه المؤلف أمام فصيل الإعدام. وعلى هذا النحو عاش “فلورينتينو” العاشق المهزوم في “الحب في زمن الكوليرا”. وكذلك منح شخصية الكولونيل الذي شهد حرب الألف يوم في “ليس للكولونيل من يكاتبه”، عظمة القوة في شيخوخته لكي يثور من أجل ذكرى ابنته. أما في “خريف البطريرك” فإنه جعل من شيخوخة الجنرال المتمادية مثالا على مأساة الناس تحت وطأة حكم الفرد الطاغية. وإذا كان ماركيز لم يستخدم عبارة (البطريرك) إلا في عنوان الرواية، فإنه أراد من خلال إيحاءات المنصب الكهنوتي، أن يدغم أبعاد قوى التسلّط والجبروت الماورائية في شخصية أرضية.
لا تبدو وطأة العمر في شخصيات ماركيز حاضرة بقوة إلا في خواتيمها. في لحظة واحدة تتكثف كل خبرات الحياة على شكل رغبة في الحياة. هكذا فعل على نحو تفصيلي في روايته الضامرة (الأخيرة؟) “ذكرى عاهراتي الحزينات” الصادرة عام 2004. في هذه الرواية يكاد ماركيز يقدم نفسه: صحافي عتيق يحتفل زملاؤه بعيد ميلاده التسعين. أراد أن يقدم لنفسه هدية مجنونة. ليلة حب مع عذراء. يقلّب دفتر تلفوناته، ويتصل ببيت محترفات. يحصل على مبتغاه. لكن الفتاة المعدمة التي قدمت له، تحتل قلبه. يعيش صراع العجز والشيخوخة والمرض. يقف بين حدّي النبل والنذالة. تعترك في داخله خيالات الحياة الذاهبة وواقع الموت المقترب. لكنه في النهاية يجد طاقة توصله إلى عقد جديد مع العمر المديد، مع الفتاة التي غسلت كل أدرانه. يكتشف أنه منذ بلغ الخمسين بات يقيس الحياة ليس بالأعوام بل بالعقود. يقول: حين استيقظت حيّا في الصباح الأول من سنوات عمري التسعين في سرير دلغادينا السعيد، انتابتني فكرة سارّة بأن الحياة ليست شيئا يجري مثل نهر هيراقليطس الصاخب، بل مناسبة وحيدة للتقلّب على المشوى، والاستمرار بشواء جانبنا الآخر لتسعين سنة أخرى.
(غابو).. إلى عقود أخرى..
adelk58@hotmail.com