لطالما شكلت دمشق عصب العروبة، ولطالما تحملت وزر خطايا العرب، وتفرق كلمتهم، ولطالما نأت بنفسها حين يتناحر العرب قرب مضاربهم أو مضارب بني عمهم على شلو قطع ممزقة من حدود الأرض والكلأ أو على ردات فعل من التنابز والتلاسن، لطالما كانت دمشق الليل ودفئه على العرب الذين تتقاسمهم المدن والطرقات، مثلما كانت بغداد النهار والجدار وشيئاً من العز والكرامة حينما كانت بغداد، ولطالما كانت دمشق تئن بيوتها، لكنها كانت مرضعة للعروبة، كان شعبها يبيت على الطوى، لئلا يشكو جار قريب أو بعيد من الناطقين بالضاد، كانت دمشق، وكان عزها بأهلها، لقد ظلت ولاّدة ترفد القلم والعلم وتسند الإرث وتتباهى بالخيل العربية والسيف العربي، ومسك مجدهما في التاريخ، ظلت في حصارها من خاصرتها لكي تثمر يوماً بشيء مختلف، ولكي يعلو شأنها مثل بلدان أصغر منها، وأقل منها، وبلدان عرفت طريقها لمجد جديد فاعتلته، ظلت دمشق محاصرة بأشياء لا تعرفها، وقتلوا فيها أشياء تعرفها، وصدّروا باسمها أموراً لا تعرفها، وحين دنسوا أموراً تعالوا وصرخوا باسمها، فمن يصدق أن الأم التي تشبه ميسلون، وتشبه خولة بنت الأزور، يمكن تحني رأسها إلا بمقدار مرور العاصفة لغاصب أو متسلط أو عابد وثن؟ من يصدق أنها يمكن أن تبعث بالشر مصروراً في طرف عباءتها لأحبائها؟ من يصدق أن تحول الأمور، ورغبات المماليك والمغول دون أن تشع بظلال شمسها على الكون؟ وهي التي عرّفته بالأبجدية، ومفاتيح النور والمسرات، وكانت مهداً ولحداً لأنبياء وأتقياء كثر، دمشق يا عطر حضارات مرت، ومسك رجال ضمخوا التاريخ بتعاليم وقبس من نور، دمشق يا أرض البشارات، نعيب الزمان أن تبقي تجترين جراحك في الظلمة، وتنوئين بثقل رماح لا تعرفين كيف تتقينها وفي أي جنب ستستقر، هو موعد نهضتك، ونفض صوت الرعب الذي سكنك، فمثلك لا يليق بها كل رائحة الدم هذا، ومثلك لا يليق بها كم العذابات الذي يجعل من يومك ريح دخان ورماد، وليلك طويل من الجروح والسهاد، مثلك لا يليق بها هذا الخوف الذي جفف نهر بردى، وأقفر بساتين الغوطة، وطال شجر قاسيون، مثلك والعذاب مفترقان، ومثلك والمجد ملتقيان، هي أيام من وضع الملح في أخدود الجرح، ولن تبالي، هي أيام من أيام تعليق شهدائك في ساحة المرجة ولن تبالي، هي أيام من أيام حينما وقف ذلك المتعرجف الفرنسي على قبر صلاح الدين وقال: هاقد عدنا يا صلاح الدين، ولم يبال ذلك الراقد تحت عمامة النصر الخضراء، ولم تبال، هي أيام نراها زاهية، ومشرقة بشمسك التي طال غيابها، وها هي تفرد جدائلها المعطرة بياسمين دمشق، وضوع زهر نوّار الفيحاء.. ولن تبالي.. تلك رائحة الحرية! ???????
amood8@yahoo.com