إنه السؤال المحير، منذ أن انحنى رجل على وجه امرأة وسألها: هل أنت الليل؟ حتى يومنا هذا حيث تتقاتل النصوص ويختلف أصحابها حول جنس ملائكة القصيدة· وربما جاء الجواب على سؤال من تسأله: قل لي ما هو الشعر، بسؤال آخر مرتد عليك وهو: قل ما هو النثر؟ فقد أمضى ''مسيو جوردان'' (بطل موليير الهزلي في إحدى مسرحياته) أربعين سنة من عمره، وهو لا يعلم أن الكلام الذي يتكلمه في أحاديثه اليومية مع الناس هو ''نثر''· والمفارقة الساخرة هنا ليست مجانية· وهي تتعلق بالحدود· أين يقف هذا وأين يقف ذاك؟ ومتى يدخل هذا في ذاك وكيف؟ هل الفرق فرق صيغة أم جوهر أم رؤية؟ تستطيع على سبيل المثال أن تعرّف الصخرة بقولك إنها عنصر جامد من عناصر الطبيعة، يتشكل على امتداد السنين من ترسبات وتحولات كيميائية، وإنها تتجاور مع العناصر السائلة والعناصر الغازية، خاضعة مثلها للتفاعل والتغير··· وتستطيع أن تقول: ''في فوضى هذا العمل الخلاب/ حيث الشعر يوحّد بين الأسماء/ يحلو أن أتقدم للصخرة/ أسألها: هل أنت أنا؟/ أتخيل أن الصخرة واقفة/ في أسفل جفن الطفل الباكي/ في مجرى الدمع/ فأدحرجها/ أتخيل أن الصخرة وقت أعمى/ ينهض فوق الأشياء'' فالصخرة من حيث هي ''عنصر جامد من عناصر الطبيعة'' هي غير الصخرة من حيث هي ''دمعة واقفة في أسفل جفن الطفل الباكي'' أو ''وقت أعمى''··· الخ· الأولى صخرة في الطبيعة والثانية صخرة في الشعر·· وشتان بين الصخرتين· نعود إذن للحدود· قل لي ما هو الشعر؟ لم يكن الفلاسفة والمفكرون أقل عناية بذلك من الشعراء أنفسهم· وإذا كان ثمة من يحتكمون للحدس والذوق (حتى بمعناه الإشراقي الصوفي) في التعرف على القصيدة وتعريف الشعر، فإن هناك أيضاً من حاول الإمساك بطيف الشعر وحبسه في قفص·· وهيهات لهم ذلك·· فإن ما يمنع القدرة على التحديد هو غموض القصيدة وميلها الدائم لشطح حر وجنون لازم· وقد حاول ابن سينا وضع حد للشعر بقوله ''الشعر لا يتم شعراً إلا بمقدمات مخيلة ووزن ذي إيقاع متناسب'' (أنظر كتابيه: فن الشعر، والمجموع تحقيق محمد سالم، القاهرة 1969 ص 20)، فهو جمع المخيلة للوزن أو إنزال المخيلة (في ما هي محاكاة على ما يرى أرسطو في الشعر) في الوزن· وكان ثمة من يتكلم عن ''معنى المعنى''، فما هو إذن هذا الصنيع اللغوي الرؤيوي الملتحم بالموسيقى التحاماً عضوياً والمسمى القصيدة؟ ثم ما المعنى ومعنى المعنى وكيف؟ وهل للنثر أن يجتاح الحقول الممغنطة للشعر···؟ وبأية أسلاك؟ أسئلة كثيرة ستبقى معلقة، ذلك أن الإجابة عنها ستفتح بدورها أسئلة كاللانهاية·