العنيدة
كانت ابنة البقال تعرف أنها عندما تنتمي إلى عالم السياسة الناهش ورجالها المفترسين، فإن أصلها الطبقي وأنوثتها، سيصبحان عبئاً عليها. كانت مهيئة فطرياً لكي تتحصن بدرع حديدي يضعها في مصاف الرجال، ويجعلها تتقدم عليهم.
يبدأ فيلم “السيدة الحديدية” من لحظات التلاشي. تلاشي ذلك العالم الذي عاشت فيه مارغريت ثاتشر، تجلجل بصوتها وتصدح بأوامرها، وتجعل الرجال يفرّون من حولها، أو يصدعون أمام جبروتها.
جاءت ثاتشر إلى الحكم بعد عمالقة: لويد جورج ووينستون تشرشل، وغادرتها لكي تبقى بصحبتهم، وحدها من بين جموع الساسة ورؤساء الحكومات في بريطانيا العظمى.. وبين الحضور والمغادرة، أعادت تشكيل خريطة بلادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية.
يظهر الفيلم ثاتشر مقاتلة دائمة، منذ انتصارها الأول في انتخابات مجلس العموم إلى انقلاب رفاقها ضدها. قاتلت ثاتشر الترهل الذي أصاب بلادها بعد الحرب العالمية الثانية. آمنت باقتصاد السوق، وبأن على الدولة أن تنسحب من دورها الاجتماعي. تصدت للحركة النقابية عريقة الجذور في بريطانيا. طوّعتها ثم قوّضتها. وحين لم يبق منها غير عمّال المناجم ونقاباتهم المتينة، جاءت ضربتها الموجعة. ساوت بين الفقراء والأغنياء في نظام ضرائبي جشع. وحينما بدا أن الاحتجاجات سوف تكلفها كثيراً، وصلتها هدية غير متوقعة: حرب عبر آلاف الأميال مع الأرجنتين بسبب نزاع على ملكية جزر الفوكلاند. توحد الجميع خلف المرأة العنيدة.
لم يسرد الفيلم أحداث الحقبة الثاتشرية بهذا التسلسل، ولو فعل لأصبح فيلماً وثائقياً بامتياز. لكن المخرجة البريطانية فيلدا لويد أضفت على فيلمها بعداً درامياً مدهشاً، كانت تتداعى فيه أحداث الماضي في حاضر البارونة العجوز. تأخذها نوبة قنوط إلى صولاتها السابقة. وتعيدها نوبة هذيان إلى واقعها الباهت، فتحاور زوجها الراحل كأنه رفيق وحدتها الدائم والأخير.
وذلك المزج الذي أجادته المخرجة باقتدار، على الرغم من أنه قد يضع المشاهد غير الملم بتفاصيل الحقبة الثاتشرية في حرج، أغنته الممثلة ميريل ستريب بأدائها الطاغي.
تصرّفت ثاتشر وكأنها الرجل الوحيد في حكومتها. تصرّفت بنبل وبقسوة في آن واحد. حكمت وحاكمت بمنظومة قيم صاغتها لنفسها، تقول: “انتبه لأفكارك لأنها ستصبح كلمات. انتبه لكلماتك لأنها ستصبح أفعالا. انتبه لأفعالك لأنها ستصبح عادات. انتبه لعاداتك لأنها ستصبح شخصيتك. انتبه لشخصيتك لأنها ستصبح مصيرك. ما نفكر به هو ما نصبح عليه”.
كانت تؤمن بأن ما تفعله صحيح لأنها تؤمن به، ولأن ما يفعله غيرها خاطئ. عندما كانت تعلّم ابنتها قيادة السيارة نبّهتها إلى أن عليها التزام قواعد القيادة الصحيحة، لأن الآخرين، إما يكونوا متهورين أو غير أكفياء. هذا الدرس أخذته معها إلى “10 دواننج ستريت”. قادت حكومتها والبلاد، بمعاييرها فقط. رفضت وعاندت، ووقفت بشراسة أمام رياح الوحدة الأوروبية التي هبت عاتية في أواخر القرن الماضي. وعندما شعرت أن رفاقها في الحزب والحكومة، باتوا يعدون العدة للانقضاض عليها، لم تتوان عن الدفاع بأسنانها وأظافرها. جرّحت نائبها أمام زملائه بسبب صياغاته الركيكة، وارتكابه خطأ إملائيا ًفي كتابة كلمة.
بدا في تلك اللحظة أن عالمها قد انتهى. طعنها زملاؤها على مذبح الوحدة الأوروبية. ولو نظرت ثاتشر اليوم إلى أزمات أوروبا الاقتصادية ستسأل: ألم أقل لكم؟ سؤال سيردده الأوروبيون إذا نظروا عبر المانش إلى البرّ البريطاني.
لكن ثاتشر ستتغاضى عن الإجابة وهي تندب السياسة التي كانت “أن تحاول فعل شيء ما، لكنها باتت اليوم أن تحاول لكي تكون شخصاً ما”.
adelk58@hotmail.com