فهم أدونيس
عرفت شعر أدونيس وأنا طالب في كلية الآداب، وكان هو شاعر ملء السمع والبصر، أصدر ديوانه “مهيار الدمشقي” الذي يتميز بنزعته الغنائية بالقياس إلى دواوينه الأخرى. وكنت أجد راحتي في قراءة شعر بدر شاكر السياب العراقي الذي كنا نتناشد، ونحن طلاب قصيدته “أنشودة المطر”، وزادنا تعاطفا مع أخبار موته وما عاناه في حياته القصيرة. وكنا ننشد شعر صلاح عبد الصبور ونتعاطف معه لأنه كان خريج القسم الذي ندرس فيه، وكان يقرب منه في المكانة أحمد عبد المعطي حجازي الذي قرأت سهير القلماوي معنا في الفصل إحدى قصائد ديوان “مدينة بلا قلب” وأظنها “أنا والمدينة”. والحق أننا كنا نجد سهولة في قراءة شعر صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وبدر شاكر السياب رغم إشاراته العديدة إلى الأساطير البابلية والسومرية. ولا نجد ما يحول بيننا وشعر عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة من شعراء العراق، ولا نجد ما يصعب علينا فهمه في شعر خليل حاوي أو حتى يوسف الخال في لبنان.
كان أدونيس صنفا وحده من الشعراء، فشعره يتأبى على الفكر، ويحتاج إلى القراءة مرات حتى نقترب من فهم قصائده، وأعترف أن صعوبة شعره الأولى أثارت في نفسي روح التحدي، خصوصا لأني كنت أشعر منذ البداية أن وراء هذا الغموض ما يستحقه عناء الوصول إليه. وكنت أقول لنفسي في ذلك الوقت: إذا كنت تقرأ المتون البلاغية والنحوية الصعبة فهل تقف عاجزا أمام هذا الشاعر الذي يقول لك حدسك إن وراء صعوبته الظاهرة الكثير من الدلالات الفنية التي يستحق الوصول إليها القليل أو الكثير من العناء؟ وهكذا بدأت معاناتي مع أدونيس وكانت الرحلة شاقة، لكن عطاءها كان عظيما، فقد توصلت إلى بعض المفاتيح التى تعين على الفهم والتفسير، ووجدت وراء الخلاف الذي يجعلني أرفض النزعة الفينيقية في “مهيار الدمشقي” والدواوين التي قبله دلالات إنسانية عميقة وأفقا شاملا بالغ الرحابة.
وكانت النتيجة أنني أحببت شعر أدونيس، فقد تعلمت على نحو ما الذى يمكن أن تكون عليه قصيدة الفكر؟ وكيف يمكن أن تتلألأ الأفكار في صياغات شعرية يذوب فيها الفكر في القصيدة، وتتحول فيها الأفكار إلى مواقف؟ وعندما اتسع تكويني الثقافي عرفت أن للإبداع إلهين: أبولو العقلاني الساطع كالشمس التي يرمز إليها، وديونيسيوس العفوي الصاخب الذي لا يفارق اندفاع النشوة والجنون، فنسبت صلاح عبد الصبور إلى أبولو، وأدونيس إلى ديونيسيوس.
واكتشفت أن في داخلي بعضًا من الاثنين، فمع أني أميل إلى التعقل والاتزان فقد كنت، ولا أزال، أفاجأ بنزوع داخلي يتمرد على الاتزان والتعقل، وأدركت أخيرا مع النضج أن ذائقتي تتسع لكل من أدونيس وصلاح عبد الصبور.