افرش منديلك!
افرش منديلك·· ع الرملة، وأنا ألف وجيلك·· ع الرملة، سمعت تلك الأغنية التي كدت أنساها، وأنسى مطربها وأنا أقلب قنوات التلفزيون ظهيرة جمعة شبه مملة، وهي أغنية ذاع صيتها في السبعينيات للمطرب ماهر العطار·
تذكرت المنديل أو ''الدسمال'' وهي كلمة أردية، وتذكرت أن أول من جلبه هو المدرسة النظامية والمدرسون الذين توافدوا علينا من أقطار الوطن العربي، فقد كان لا يسمح لنا بالحضور إلا بمنديل أبيض ومرتب، ونضعه تحت أيدينا أثناء الاصطفاف، وأثناء التفتيش على الهندام والأظافر في الطابور الصباحي المدرسي في تلك الأيام·
لقد اشتهرت المناديل الرجالية والنسائية في كل الحضارات وفي أوقات مختلفة ولاستعمالات مختلفة، مثلما عند الإنجليز والفرنسيين، وعشاق إيطاليا المجانين، حيث لا يقل شهرة عن منديل الحبيب، منديل المحبوب، فهو منديل الغرام والرومانسية والأوهام، ودموع التماسيح، وهو ما عرفه الناس على اختلاف ميولهم وعاداتهم وفهمهم، وإن كان المنديل الأبيض الأكثر شيوعاً في عالم الدموع!
كانت سيدة الغناء العربي الراحلة كوكب الشرق أم كلثوم من مشاهير حملة ''المناديل'' تكاد تقطعها بين يديها وهي تتفاعل مع أغنياتها لاسيما عندما تصهلل وتتجلى وتتسلطن! والجمهور يهتف: عظمة على عظمة يا ست·
ولم يكن الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب بمنديله الأبيض بأقل حرصاً منها على منديله الذي طالما استخدمه على قاعدة ''درهم وقاية'' تجنبا للفيروسات المنتشرة في الجو أو المحتملة من جلسائه وزملائه الآخرين، لأنه من أكبر الموسوسين!
وقد عرف المنديل الأبيض لمسح العرق والدموع أيضاً، فاستخدمه الرئيس المصري الراحل أنور السادات في مسح عرقه المتصبب منه أثناء خطابه الشهير في الكنيست الصهيوني في شهر نوفمبر عام ،1977 ومن قبل في خطابه الشهير لمجلس الشعب إبان حرب اكتوبر 1973 عندما اكتشف فجأة أنه يحارب أميركا وليست إسرائيل لتبرير ثغرة الدفرسوار والجنوح نحو الحل السلمي بدلاً من العسكري، وكان المنديل الأبيض الهرمي جزءا من أناقة الرئيس جمال عبدالناصر·
أما بالنسبة للدموع، فقد استخدم المنديل في الافلام والمشاهد الرومانسية والأغنيات العاطفية·· ومن المشاهد المشهورة في ذاكرة الفن السابع فيلم ''ذهب مع الريح''، حيث أهدى البطل ''كلارك جيبل'' البطلة فيفيان لي منديله الخاص غير مرة لتمسح به دموعها المتعمدة السيلان كأنها ''أمطرت لؤلؤاً من نرجس''، لكن فيفيان نسيت أن ''تعض على العناب بالبرد''!
ورغم زهو الرجل بمنديله الخاص، كمؤشر لأناقته، إلا أنه لم يخل من ''مآثره'' السلبية أحيانا، لاسيما بعدما وجدت النساء فيه مصيدة لقياس بارومتر الحب أو اللاحب، ودليلاً على العين القنوعة والعين الزايغة·
ومع شيوع صناعة الكلينكس والمناديل الورقية والمناديل المبلولة والمعطرة، اندثر المنديل الأبيض تدريجياً، حتى بات يقتصر دوره على إتمام مراسم الزواج وكتب الكتاب في الزيجات التي ''تتم'' في المسلسلات والأفلام المصرية·· ولكن عادل إمام اتخذ من منديل المأذون الشرعي في مسرحية الواد سيد الشغال، فرصة للخروج عن النص، فقد ''تورط'' المأذون عندما قال: أعطيني منديلاً! فرد عليه ''الإمام'' أتريد منديلاً أم منديلاً تريد؟! وماذا عن الكلينكس·· ثكلتك أمك·· وخذ فاصلاً من الضحك بسبب المنديل·· حتى بلغ الأمر بقافلة أبو سفيان التجارية العائدة من الشام!
واليوم·· فعلاً المحارم الورقية الناعمة هي سيدة الموقف ولم يبق من منديل الحب أو منديل الحبيب سوى ما تصدح به حناجر المطربين والمطربات وكلهم تهافتوا على أغنية ''عاللي جرى'' وفيها آخر المناديل: ''وامسح دموعي بمنديلك عاللي جرى''·