من عامين ونيّف مات ممدوح عدوان، طار كما يخرج طائر الرخّ من بيضته، بعد أن ينقر بمنقاره جدرانها الكلية·· طار الشاعر نحو جنونه الأخير خارجاً من أرض السرطان· أتذكره اليوم لا أحسبه انكسر أمام الموت· ضحكته لا تزال ترف أمامه كفراشة منذهلة·· سعاله الطويل المتقطع، خصلة شعره المتدلية على جبينه ويردها إلى الخلف فلا ترتد عيناه الثعلبيتان اللتان تضيقان قليلاً حين يضحك·· كل ذلك يجعل لهذا الوجه الجميل عذوبة لا تغيب· لا تكتمل صورة ممدوح إلا إذا اعتلى منبر القصيدة· محطات شعره واخزة كأنها إبر النحل تحط على مجسات الجسد العربي المهزوم· كان غالباً ما يرتدي كنزة حمراء حين يصعد إلى المنبر، فيظهر كما لو أنه فارس على حصان، يتقدم ويتأخر، يدور حول نفسه، ينوء، يئن، يعض على لجامه فينزل الدم من فكيه وكنت أبصر دم الشاعر وهو يسيل والشرر يتطاير من عيني الفارس وعيني الحصان، وساحة الشعر تكتسي بعويل طويل، بما يشبه الندبيات المتداخلة القديمة والجديدة وكأنها استعادات النساء الثكالى، ولم يكن ممدوح يضحك في قصائده مثلما كان يضحك في حياته كان في القصيدة مكفهراً، مأساوياً، متجهماً، مفارقاً، نائحاً، نادباً، هاجياً، شاعر مراث قومية طويلة، غراباً ينوح على الدمن، وكان في شعره أشبه ما يكون بطائر الهامة الذي روت عنه الأساطير الجاهلية انه كان دائماً ينوح على قبور القتلى ودمن الذين ماتوا غدراً ويصيح ''اسقوني·· اسقوني'' مطالباً بالثأر حتى يرتوي التراب أو الرمل بدم العدو· كان يظهر لي ممدوح عدوان وأنا أنظر إليه وكأنه وجد نفسه·· يلوّح بأيديه المتعبة، ولا يرد عليه أحد·· وبالسخرية عينها يقول: أنا كذبابة خسرت جناحيها ويشير الى رأسه ويقول: نعم، فوق رأسي عمامة لكنها لا تخفي الوحل الذي على جبيني· ويتلفت حواليه وحين يصرخ يقول: الصحراء العربية مسدودة ولا توصل الصوت· قال في إحدى قصائده الأخيرة: ''ماتوا/ وهم يتلون آيات من الإسراء''··· ''تنبو سيوف الثأر/ وحين أموت من جوع/ ولا ألقى لديك الخبز/ كيف تظن لا أعطيك ما عندي من الأسنان''؟· ممدوح عدوان كان شاعراً من شعراء جيل الغضب العربي، كالماغوط وأمل دنقل ومظفر النواب، كان كما يقول يسير في الشوارع ويركل أمامه غضبه كطفل وينظر الى أنهار بلاده وهي تجري وراءه كالسوط، فيخاف منها·· مدنه تسقط من يده عشرات المرات وهو يجري وأرضه فوق ظهره كالحدبة·· ولم تكن قصائده غير فائض الغضب والحزن، ويتوقع ان ينفجر الغضب لا من كلمات القصائد وحدها بل من بين أسنانه ومن جبهته· أسأل اليوم نفسي، وممدوح عدوان لا يزال على مرمى النفس: هل حقاً هو السرطان الذي قتل الشاعر؟ وماذا كان بوسعه أن يفعل بفائض القهر والغضب؟