فلننتظر..
أطاح مثقفون بكل مقولات إدوارد سعيد وغيره عن علاقتهم بالسلطة. حبّر سعيد مئات الصفحات عن دور المثقف الناقد, المصحح, المصلح لمؤسسات السلطة وممارساتها. الآن تجاوز مثقفون (بلا أل التعريف) تلك الحدود المفترضة بين سلطة تمارس الحكم الباطش أو الرشيد, والمثقف الذي يمارس دور الناصح المغرض أو الأمين. دخل مثقفون إلى السلطة من أوسع أبوابها. أصبح عنوان الموضوع: المثقف في السلطة, وليس المثقف والسلطة.
فاتسلاف هافل علامة ماثلة في الأذهان. قبله قاد شاعر رومانسي ثورة الفلاحين في الصين, لكي يطبع اسمه على ثورة ثقافية كانت أعنف من ثورة السلاح. قبله, أيضا, قاد رسام فاشل من فيينا بلاده والعالم إلى دمار الحرب العالمية الثانية. ومعهما ونستون تشرشل المثقف وعاشق الرسم الذي استطاع أن ينتزع الانتصار العسكري لبلاده وأن يزج بها في تبعية عبر الأطلسي. وغير هؤلاء أغرت الثقافة زعماء في قصورهم, فلم تدلهم على مصيرهم المحتوم في مقصلة بغداد أو زنقات طرابلس.
فاتسلاف هافل (1936 – 2011), يعطي علامة جديرة بالدرس: كاتب مسرحي تشيكو – سلوفاكي, ابن عائلة متوسطة, قارع الاستبداد الشيوعي بنشاطه السياسي وإنتاجه المسرحي, تعرض للسجن عدة مرات, وأصبح رمزا لـ”ربيع بلغراد” عندما أسكتت الدبابات الروسية أصوات الاستقلال الطالعة من خلف السور الحديدي.. هافل, هذا, أوصله نضاله إلى أعلى هرم السلطة في بلاده, فأصبح الوجه البارز في الثورة المخملية رئيسا لجمهورية تشيكوسلوفاكيا الموحدة, قبل أن تنقسم وتصبح رئاسته مقتصرة على تشيكيا.
ميزة فاتسلاف هافل في الحكم أنه نقل معه روح المثقف إلى مكتب الرئيس. كانت آلام القهر التي سجلها في مسرحياته ماثلة أمام عينيه. لذلك استطاع أن يجنّب بلاده آلام الانقسام. مثلما كان التحرر من الديمقراطية سلسا, سار مسار الانفصال في طريق سهل. كان الفضل للرئيس على الرغم من أنه شخصيا كان ضد التقسيم.
الأهم من ذلك هو أن فاتسلاف هافل المثقف كان يعرف أن هناك نقطة نهاية لا بد أن يتوقف عندها الرئيس. فاستعد لها, وكتب من أجلها خطبته المشهورة “وداعا أيتها السياسة”, ونشرتها مجلة “نيويورك بوك ريفيو” عام 2002, وفيها يعترف بأن 13 سنة في الحكم قللت ثقته في النفس, وإن مواجهة الجماهير كانت تمثل له رهبة كبيرة وتخوفا من عدم تحقيق آمالهم وحل مشاكلهم. ويقول إنه كان يخاف من أن يكرر نفسه, لذلك كان يبتعد قدر الإمكان عن وسائل الإعلام, وإنه كلما زاد عدد أعدائه، أصبح في داخله معهم ضد نفسه، وبذلك أصبح أسوأ عدو لنفسه.
وفي نص ينطوي على مكاشفة داخلية يقول هافل: “عندما تحين لحظة الحقيقة وأجد نفسي محاطاً بأسئلة مثل: ماذا فعل هذا الرجل؟ وماذا حقق؟ وما هو الميراث السياسي الذي تركه؟ وما هي طبيعة الدولة التي تركها خلفه؟ هكذا اشعر باضطرابي الروحي والفكري وتتملكني روح الثورة التي أجبرتني على تحدي النظام الشمولي السابق ودخولي السجن، وهو ما يتسبب في أن تكون عندي شكوك قوية في قيمة عملي الذاتي”.
فاتسلاف هافل علامة ينبغي أن نقرأها عربيا بحذر وإمعان, فأمامنا تجربتان شبيهتان:
- رئيس تونسي جديد يتمتع بخلفية ثقافية ونضالية محترمة, أخذته تسويات السلطة في اتجاهات غير معهودة.. فلننتظر..
- الدكتور برهان غليون, بنى تاريخه الأكاديمي على تسفيه الشمولية وتبجيل العلمانية, وها هو يتقدم فوق محمل يحرسه بالسلاح أعداء العلمانية.. فلننتظر..
adelk58@hotmail.com