الفتى الأزهري
تترك الدراسة في الأزهر في شخصية من يتلقاها خلال المراحل الابتدائية والثانوية أو خلال المرحلة الجامعية آثاراً عميقة لا تمحوها الأيام. كان توفيق الحكيم يحكي لي في مدريد أن علاقته بطه حسين كثيراً ما تراوحت بين الود الحميم والاعتراف بأستاذيته وبين التخالف الطريف معه في بعض المواقف، وأنه كان إذا أراد أن يغيظه يخاطبه قائلاً: اسمع يا شيخ طه، فيحمر وجه العميد ويدرك نوع التعريض به كرجل محافظ، لكن أبلغ آثار الخاتم الأزهري على أصحابه الصالحين والفاسدين معاً- كان أستاذي الشيخ حجاج ينادي عليّ في الفصل: اسكت يا فسّاد، هو ذلاقة اللسان وطلاقة التعبير والتمثل الجمالي الممتع لإيقاع اللغة والقدرة الفائقة على التصرف فيها، بهذا كان طه حسين موسيقار اللغة العربية في نبراته وسكناته، وساحرها الأكبر في عصره.
ولقد دخلت الأزهر مكرهاً، لأن جدي نذرني له كي أعوضه عن فقد أبي الشاعر الذي اختطفه الموت، بينما كنت أهفو إلى أن أظل من طلاب المدارس وأتعاجب بملبسهم وأتقرب للفتيات- ومازالت هذه الخصلة تسكنني حتى اليوم ـ وضاعت أيام مراهقتي وصدر شبابي في قيوده الضاغطة، لكن أفدت كثيراً منه في اعتصار رحيق اللغة والأدب ومعرفة جوهر الفقه الإسلامي، ثم تحررت منه على ثلاث مراحل: كانت الأولى عندما انتقلت في المرحلة الثانوية من مدينتي القروية دسوق إلى القاهرة، كي أصحب عمي الذي التحق بكلية الحقوق، فغرقت في ندوات القاهرة ونشاطها الثقافي، وتعمدت بدراسة القانون أربع سنوات كاملة، لأن عمي كان يصر على أن أقرأ له كل المقررات، درست القانون الدستوري والمدني والجنائي وأسس التشريع عند الرومان والفرنسيين، وخرجت من عباءة العصور الوسطى ليتجذر وعيي بالحداثة، وكانت هذه أول عملية لغسيل المخ تعرضت لها في صباي. وفي هذه المرحلة كنت أتقدم للمسابقات المختلفة فأحصل على جوائزها الأولى، أذكر منها مسابقة عن تاريخ القضاء في الإسلام وأخرى عن مفضليات الضبي.
وكان التحرر الثاني عندما حصلت على الثانوية الأزهرية بأعلى التقديرات في الجمهورية، مما أتاح لي دخول كلية دار العلوم في جامعة القاهرة مع حصولي على مكافأة التفوق الشهرية، فخلعت إلى الأدب بقايا الزي الأزهري، وأصبح بوسعي أن أصاحب زميلاتي في الكلية المختلطة قبل أن أتعرف إلى رفيقة حياتي في الفصل الدراسي الثاني من السنة الأولى. بعد تخرجي اشتدت لهفتي لإكمال الدراسة في أوروبا وكان المفارقة الكبرى أن الأزهر هو الذي أتاح لي ذلك في بعثة لدراسة النقد الأدبي في فرنسا تحولت إلى إسبانيا. وظللت في إسبانيا سبع سنوات متصلة قطعت فيها صلتي باللغة العربية كي أتشبع من الثقافة والفن ونمط الحضارة الأوروبية، وكان هذا غسيل المخ الثاني، لكنني عدت إلى جامعة الأزهر فبقيت فيها عامين حتى ذهبت أستاذاً زائراً في كلية المكسيك للدراسات العليا، وبعد عودتي انتقلت إلى آداب عين شمس 1978، وانقطعت علاقتي الوظيفية بالأزهر، لكن عقل هذا الفتى الأزهري لا يفارقني.