الاقتصاد الأميركي.. مؤشرات جيدة
يُعرف عن بورصة «وول ستريت» سرعتها، في صك عبارات جديدة مزخرفة، عندما يتعلق الأمر بكارثة مالية ما، وهو ما رأيناه مؤخراً عندما سارعت إلى تسمية التقلص الأخير في السوق المالية بـ«بوند كانو» BondCano (الذي يمزج بين كلمتي «سندات» و«بركان»). ومع ذلك قد كون انسكاب القليل من الحمم من هذا البركان، علامة تفاؤل، مبعثه هو أننا ولأول مرة منذ الأزمة المالية عام 2008، نرى تلك السحابة الغريبة التي خيمت على الاقتصاد، وهي تنقشع في نهاية المطاف. بمعظم المقاييس، يمكن القول إن الاقتصاد الأميركي قد حقق أداءً جيداً منذ عام 2008، وأن الانتعاش قد استمر منذ ذلك الوقت وحتى الآن، وأن ذلك سرعان ما سيصنف على أنه ثاني أطول توسع بعد الحرب العالمية الثانية. يُضاف إلى ذلك، أن الناتج المحلي الإجمالي قد ارتفع بنسبة 2.5 في المئة خلال العام الماضي، وهي نسبة ليست سيئة بحال، بالنسبة لمجتمع يزداد أفراده تقدماً في العمر، كما وصلت البطالة إلى أقل نسبة تصل لها وهي 4.1 في المائة. مع ذلك كله، هناك شعور بالقلق، يقترن بالاحتفاء بهذه المؤشرات الجيدة، مرجعه أنه وبغض النظر عن عدد الوظائف التي وفرها الاقتصاد، إلا أن الكثيرين يخشون من أنه لن يعود أبداً إلى حالة ما قبل الأزمة، عندما كان من الممكن أن يتعايش تزايد الطلب على العمالة، مع العوائد المجزية للمدخرين.
وهذا التشاؤم كان أكثر وضوحاً بين قادة الاحتياطي الفيدرالي. فمن المعروف، أن أعضاء اللجنة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، ينشرون بانتظام آراءهم بشأن سعر الفائدة المناسب في الأجل الطويل، والمعروف في رطانتهم المالية بـ(R*)، وهو نسبة الفائدة التي يحتاجها الاقتصاد لضمان تضخم مستقر، وأقصى قدر من توظيف العمالة في الوقت نفسه.
وارتفاع R * يمثل خبراً ساراً، بصفة عامة، لأنه يعني أن الشركات ترغب في الاقتراض، والتوسع بقوة، بما يعني، استطراداً أن الاقتصاد يمكن أن يصل نتيجة لذلك إلى حالة التشغيل الكاملة، حتى عندما تكون أسعار الفائدة مرتفعة نسبياً. وفي مثل هذه الحالة، يمكن للعاملين أيضاً أن يحصلوا على مرتبات جيدة، حتى مع حصول المدخرين على عوائد مرتفعة على مدخراتهم. ولعلنا نذكر في هذا السياق ما حدث منذ عقدين، عندما كانت نسبة البطالة منخفضة، ومع ذلك ارتفعت الأجور، وارتفعت نسبة الفائدة التي يحصل عليها المدخرون على مدخراتهم في البنوك بنسبة 5.5 في المئة في الوقت ذاته.
الخبر السيئ هو أن معدل الـ(R*) قد انخفض بشكل حاد، في تقدير قادة بنك الاحتياطي الفيدرالي، فمنذ عام 2012، انخفض متوسط التقدير لمعدل الفائدة في الأجل الطويل، الذي نشره أعضاء اللجنة النقدية مما يزيد قليلاً على 4% إلى أقل من 3%، وهو ما يعني، إذا استبعدنا عامل التضخم، أن تنهار أسعار الفائدة الحقيقية بمقدار الثلثين تقريباً. ويقول قادة مجلس الاحتياطي الاتحادي، أن الشركات غير متحمسة على ما يبدو للاقتراض والاستثمار، وهو ما يعني أنه سيتعين إبقاء أسعار الفائدة منخفضة، من أجل الحصول على حالة التشغيل الكامل للعمالة.
كيف عَلق الاقتصاد في هذه الحفرة؟ التقديرات المتشائمة لـ(R*) تعكس اقتناعاً، بأنه حتى قبل صدمة عام 2008، كانت القوى النافذة في الاقتصاد تضغط على أسعار الفائدة، وأن شيخوخة جيل «طفرة المواليد»، الذي ولد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، قد أدى إلى زيادة نسبة الادخار، ولكن زيادة رأس المال المتوافر في البنوك نتيجة لذلك، قابله من ناحية أخرى انخفاض في الطلب من جانب الشركات، مما أدى إلى المزيد من الانخفاض في أسعار الفائدة، كما أن الزيادات البطيئة في معدلات الإنتاجية، كانت تعني أن الشركات لم تكن في حاجة إلى شراء المزيد من الآلات الضخمة، وهو ما أدى بدوره إلى تباطؤ معدل الاستثمار التجاري.
حتى الآن، يبدو الوضع متشائماً للغاية، ولكنه قد لا يكون كذلك في الحقيقة، فهناك أدلة تشير إلى أن تقديرات الاحتياطي الفيدرالي لـ(R*) حذرة أكثر مما ينبغي، وأن النفقات الرأسمالية تتعافى، وستشهد المزيد من الارتفاع كما تشير التوقعات كافة، وأن معدلات الادخار الشخصي، قد انخفضت إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، وأن خفض الضرائب من قبل إدارة ترامب يعني أن معدل الادخار الحكومي، هو الآخر سينخفض بشكل دراماتيكي أيضاً، وأن كل هذا يعني في مجمله أننا نسير على درب العودة مرة أخرى إلى نسبة عجز تريليون دولار. وفي الوقت نفسه نرى في وادي السيليكون، أن بعض أصحاب رؤوس الأموال يتحولون إلى مشاريع متعطشة لرأس المال مثل الروبوتات الطبية، والاندماج النووي للجيل المقبل، والأقمار الاصطناعية، وهلم جرا. أما على الصعيد العالمي، فأدت الاقتصادات العفية في العديد من بلدان العالم، إلى إضعاف رغبة المستثمرين في ادخار الأموال في الولايات المتحدة باعتبارها ملاذاً آمناً.
كل ذلك يؤشر على أن المدخرات في الولايات المتحدة ستكون أقل وفرة، وأن الطلب عليها سيكون أكثر قوة. وأنه ما لم تعكس الأسواق مسارها فجأة، فإن «بوندكانو» الأخير ربما يعكس صحوة.
بالنسبة للعديد من مديري الأموال المتخصصين، قد تكون هذه الأوقات شديدة الصعوبة، أما بالنسبة للاقتصاد ككل، فإن ارتفاع معدل (R*) يعتبر مؤشراً على أن الوعكة التي عانى منها الاقتصاد في فترة ما بعد الأزمة المالية عام 2008، قد بدأت في الزوال، في نهاية المطاف.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»