أكثر ما يصيب بالإحباط في الممارسات الاستبدادية العربية هو إنتاج خطاب يبرره لا يختلف في شيء عن خطاب الاستعمار. يقول بهذا الخطاب الأيديولوجي رجال السياسة والأمن وقطاع مهم من المشتغلين بجهاز الدولة الأيديولوجي وخاصة في الإعلام والصحافة الرسميين. ووظيفة هذا الخطاب الجوهرية هي إصدار تبرير "سري": أي غير مصرح به علنا في معظم الأحوال لتبرير ممارسة الاستبداد والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان. ويدين هذا الخطاب الاستعماري الداخلي الشعوب العربية بالقول إنها أمية وليست مثقفة أو مسؤولة وليس باستطاعتها التعامل مع الحرية والديمقراطية أو أن تحكم نفسها بنفسها, وأن المجتمع هش, وقابل للاشتعال مع أي تحريض أو شعارات زاعقة تخاطب غرائزه, وتجعله يصطف مع المتطرفين والمخربين, وإنه "يمكن أن يجمع بصفاره ويفرق بكرباج". ولا يخجل هذا الخطاب "السري" بطبيعته من تبرير ممارسات مثل التعذيب والاعتقالات العشوائية والعقاب الجماعي وتزوير الانتخابات والاستفتاءات العامة, فضلا عن مصادرة الحريات. ويرى هذا الخطاب أن ما يهم الناس هو أن يأكلوا ويشربوا ويشبعوا حاجاتهم البسيطة والعضوية الأخرى, وأن لا شأن لهم بالثقافة أو بالسياسة أو معنى الكرامة والحرية. وبالتالي فإن الطريقة الوحيدة للتعامل مع قضايا الأمن الجنائي أو السياسي هو التعذيب لانتزاع اعترافات أو لمجرد كسر الروح الانسانية وإخراج الأشخاص من حيز التجربة الانسانية المتكاملة واختزالهم في "كومة من اللحم". والواقع أنه رغم قسوة تجربة الاستعمار الأوروبي التقليدي واحتقاره للشعوب العربية فهو لم يصل أبدا الى درجة القسوة المادية التي اتسم بها الخطاب الاستعماري للدولة الوطنية العربية في تبريره للممارسات الاجرامية بحق الشعوب. فمجموع من قتلوا أو سقطوا ضحايا عمليات التعذيب والقتل خارج القانون والاختطاف واتخاذ الرهائن والعقاب الجماعي وغيرها من صور الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان في ظل الاستعمار الأوروبي الحديث ليسوا غير نسبة ضئيلة من ضحايا تلك الممارسات نفسها في ظل الدولة الوطنية بعد الاستقلال.
ويتسم الخطاب الاستعماري في دولة ما بعد الاستقلال بالطابع الأبوي نفسه الذي اتسم به الخطاب التبريري للاستعمار الأوروبي التقليدي للعالم العربي. ففي الحالتين ثمة سلطة ما تعرف مصلحة الشعوب أكثر منها هي! ولا تحتاج لموافقة هذه الشعوب على تعيين ذاتها كسلطة فوق الشعب ضد إرادته بصورة واضحة. ولكن عندما كانت الادارة الاستعمارية الأوروبية تتحدث عن مسؤوليتها عن "جلب الحضارة" للشعوب الشرقية كان بوسعها أن تشير للانجازات الجبارة التي تحققت في بلادها. أما الحكام والنخب والمؤسسات "الوطنية" التي تنتهك القانون وحقوق الانسان وتزور الانتخابات وتستبد بالسلطة السياسية في ظل الاستقلال وتبرر ذلك كله بأنها تعرف مصلحة الشعب أكثر منه فهي لم تنجز سوى أقل القليل, ولا تستند إلى مشروعية أداء فاضل أو مسؤول أو كفؤ. فمنطقتنا من العالم هي الأقل انجازا في شتى الميادين بالمقارنة بأية منطقة أخرى رغم ما يتوفر لها من موارد أفضل وأكثر. وبوسعنا أن نشير الى التناقض البسيط التالي. اذا كان الخطاب الاستعماري للدولة الوطنية يقوم في الجوهر على تحقير شعوبنا العربية بالاشارة مثلا الى الأمية المتفشية في كثير من البلاد العربية, فقد كان يتعين عليه أن يشرح لنا لماذا تستمر نسب الأمية في هذه البلاد عالية للغاية بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال؟ ولماذا لم يحقق الحكام والحكومات ولو نفس نسب التعليم في بلاد أخرى من آسيا وأفريقيا لم تقم نظما تعليمية تستحق هذا الاسم الا بعدنا بأكثر من قرن؟ ولماذا حققت بلاد كانت أكثر معاناة من الأمية وغيرها من "العلل والعاهات" التي يركز عليها الخطاب الاستعماري الداخلي، الديمقراطية والتصنيع وأخيرا نسب أفضل للتعليم بكل أبعاده؟
انصرفت خلاصة الخطاب السري أيضا للمستعمرين الأوروبيين الى قضية الأمن كنقيض للحرية والديمقراطية وحكم القانون. ولكن بعض أبرز الكوادر الاستعمارية البريطانية صرحت بهذا الخطاب السري وإن بما يقتضيه مقام النشر من تأدب مصطنع. فنجد في كتاب "كرومر في مصر" مثلا الحاحا على معنى أن الديمقراطية أوالحرية التي يمارسها الغرب لا تصلح للشعوب الشرقية التي اعتادت الاستبداد حتى أدمنته, وإن فرض الانضباط هو الطريقة الوحيدة لفرض التقدم على شعوب لم تمارس الحرية المسؤولة وليس في ثقافتها ما يعزز معنى العقلانية! وكان كرومر هو أول حاكم بريطاني لمصر بعد احتلالها عام 1882.
ولم يعد يخجل الساسة الكبار من ترديد معاني مشابهة لهذه الأفكار الأخيرة علنا. ففي مناسبة الرد على المبادرات الأميركية والأوروبية للإصلاح السياسي والديمقراطي في المنطقة يرد الساسة العرب الكبار إن الديمقراطية لا تتحقق الا بطريقة الجرعات, وإنها لا تناسبنا أو تناسب ظروفنا, وهم يعنون بذلك أن شعوبنا أقل رقيا من الشعوب الأخرى وأن الطريقة السليمة للتعامل معها هي القسوة والتعذيب. وينسى القائلون بهذه الأفكار الاس