أشرنا في المقال السابق للأضلاع الثلاثة للحلولية أو وحدة الوجود اليهودية (أي حلول الإله في مخلوقاته وتوحده بها) وهي الإله والشعب والأرض. وقد تناولنا الضلعين الأول والثاني في المقال السابق، وسنتناول في هذا المقال الضلع الثالث، أي الأرض. فكما حل الإله في الشعب فإنه يحل في الأرض، ولذا فهي تتأله وتتقدّس، تماماً كما تأله وتقدس الشعب. ولذا فإن فلسطين (أي إرتس إسرائيل في المصطلح الديني اليهودي) تسمى "أرض الرب" و"الأرض المختارة" و"الأرض المقدسة" التي تفوق في قدسيتها أية أرض أخرى، لارتباطها بالشعب المختار. كما يشار إلى الأرض بأنها "صهيون التي يسكنها الرب". فقد ورد في الزمور التاسع المقطوعة الحادية عشرة "رنموا للرب الساكن في صهيون"، أي الرب الذي حل في صهيون، أو "إرتس إسرائيل"، أي فلسطين.
وقد جاء في التلمود "الواحد القدوس تبارك اسمه قاس جميع البلدان بمقياسه ولم يستطع العثور على أية بلاد جديرة بأن تمنح لجماعة إسرائيل سوى أرض إسرائيل". وقد ساوى أحد أسفار التلمود بين الإيمان والسكنى في إرتس إسرائيل إذ جاء فيه "من يعيش داخل أرض إسرائيل يمكن اعتباره مؤمناً، أما المقيم خارجها فهو إنسان لا اله له". وهي عبارة رددها بن جوريون في بعض تصريحاته.
وقد ارتبطت شعائر الديانة اليهودية بالأرض ارتباطاً كبيراً. فبعض الصلوات من أجل المطر والندى تتلى بما يتفق مع الفصول في أرض الميعاد. وتدور صلوات عيد الفصح حول الخروج من مصر والدخول في الأرض. وترتبط عقيدة الماشيح (المسيح المخلص اليهودي) بالعودة إلى الأرض. وحتى الآن يرسل بعض أعضاء الجماعات اليهودية في العالم في طلب شيء من تراب الأرض لينثر فوق قبورهم بعد موتهم. وقد تضخم الحديث عن الأرض وعن ارتباط اليهودي بها حتى ظهر ما يسمى "لاهوت الأرض المقدسة" الذي ناقش أموراً كثيرة من بينها حدود هذه الأرض. فقد جاء في سفر التكوين (15/18) أن الإله قـد قطع مع إبراهيم عهداً قـائلاً:"لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات". ولكن في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر "العدد" توجد خريطة مغايرة حددت على أنها "أرض كنعان بتخومها"، وحددت التخوم بشكل يختلف عن خريطة سفر "التكوين". وقد حل الحاخامات هذه المشكلة بأن شَبَّهوا الأرض بجلد الإبل الذي ينكمش في حالة العطش والجوع ويتمدد إذا شبع وارتوى. (وهى صورة مجازية استخدمها هرتزل وكثير من المفكرين الصهاينة) وهكذا الأرض المقدَّسة، تنكمش إذا هجرها ساكنوها من اليهود، وتتمدد وتتسع إذا جاءها اليهود من بقاع الأرض.
وهذه الرؤية تعد الأساس الديني للتوسعية الصهيونية: إذا زاد عدد المهاجرين اليهود ليستوطنوا في فلسطين تمددت حدود الدولة الصهيونية. وقد طرح الصهاينة في بداية الأمر شعار "من النيل إلى الفرات"، ولكن على مستوى الممارسة الفعلية أصبح ما يقرر حدود الأرض هو القوة العسكرية الإسرائيلية. ولذلك انسحبت القوات الإسرائيلية من سيناء ولم تنسحب من الجولان، رغم أن سيناء أكثر قداسة من الجولان في المنظور اليهودي، فالصهاينة يوظفون الرؤية الدينية في خدمة الرؤية العسكرية. ومن المشـكلات الطريفـة التي واجهها لاهـوت الأرض مشـكلة ملكيتها. فالأرض المقدَّسة عبر تاريخها كان يقطن فيها، في معظم الأحيان، شعب عادي "غير مقدَّس" من وجهة النظر الدينية اليهودية. ففسر الحاخام راشي العبارة الافتتاحية في التوراة التي تقول: في البدء خلق الإله السماوات والأرض"، بالطريقة التالية: إن الإله يخبر جماعة إسرائيل والعالم أنه هو الخالق، ولذلك فهو صاحب ما يخلق، يوزعه كيفما شاء. ولذا، إذا قال الناس لليهود أنتم لصوص لأنكم غزوتم أرض إسرائيل وأخذتموها من أهلها فبوسع اليهود أن يجيبوا بقولهم: إن الأرض مثل الدنيا ملك الإله، وهو قد وهبها لنا. وقد استخدم الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر المنطق نفسه في العصر الحديث في مجال تبرير الاستيلاء الصهيوني على الأرض.
يوجد إذن جانبان في اليهودية: واحد إنساني يقبل الآخر ويحاول التعايش معه وهو جانب أقل ما يوصف به أنه كان هامشياً، وجانب آخر غير إنساني عدواني يرفض الآخر تماماً. ولكن في القرن التاسع عشر ظهرت حركة الاستنارة اليهودية واليهودية الإصلاحية التي أكدت الجانب الإنساني وعمقته وحذفت من الصلوات اليهودية أية إشارات لإعادة بناء الهيكل وللعودة وللأرض المقدسة، وأكدت أن اليهودية ليست انتماءً اثنياً أو عرقياً أو حتى حضارياً وإنما هي انتماء ديني، شأنها في هذا شأن الإسلام والمسيحية. هذا على عكس الصهيونية التي عمقت الجانب العدواني الرافض للآخر، وطرحت تصوراً مؤداه أن اليهود شعب مثل كل الشعوب وأن من حقه أن "يعود" إلى وطنه. وقد أحيا الفكر الصهيوني الثالوث الحلولي (وحدة الإله بالشعب وبالأرض) ولكن بطريقة ماكرة ومراوغة للغاية، إذ تم تأكيد فكرة القداسة بشكل وتم التزام الصمت بخصوص مصدرها: هل هي من الإله (وهذه هي الصيغة التي تأخذ بها الصهيونية الدينية) أم هي صفة مُتوارَثة لصيقة بالشعب اليهودي والأرض