منذ أكثر من عقد من الزمن دخلت القاموس الاقتصادي الخليجي مصطلحات جديدة، كالتكويت والتعمين والبحرنة والسعودة والتوطين، والقصد منها كما هو واضح إحلال الأيدي العاملة المواطنة محل الأيدي العاملة الأجنبية، مع اختلاف السياسات والأساليب التطبيقية بين دولة خليجية وأخرى.
تزامن ذلك مع ولوج العالم عصر العولمة وانفتاح الأسواق، ما أضاف تعقيدات جديدة لهذه التوجهات الخليجية، والتي تبدو مبررة من الناحية النظرية، إلا أنها معقدة من الناحية العملية، فالاقتصاد أحد أكثر العلوم الإنسانية الخاضعة لأنظمة وقوانين يصعب التحكم بها أو توجيهها ضمن رغبات عامة وبعيداً عن الموضوعية وقوانين النظام الاقتصادي نفسه.
التوطين مسألة مطلوبة ومهمة، إلا أن نتائجها، إيجابية كانت أم سلبية تتوقف على حسن إدارة هذه العملية، فهناك تكلفة وتكلفة باهظة لابد من تحملها، كما أن هناك منافسة شديدة يجب التهيؤ لها في الأسواق المحلية والخارجية.
إن ما يتم الآن من عمليات توطين تأخذ طابعا اجتماعيا وعاطفيا، بعيدا عن قوانين علم الاقتصاد، علما بان الإدارة الاقتصادية الناجحة لا يمكن لها السير دون الاسترشاد بهذه القوانين والأنظمة الاقتصادية المتعارف عليها.
وحتى لا نبقى ضمن العموميات، لنأخذ مثلا لعملية توطين مسيسة مع ما تمخض عنها من نتائج سلبية، فمؤسسة الخطوط الجوية الكويتية، كانت حتى قبل سنوات إحدى أهم وأنجح شركات الطيران العربية، أما الآن فإنها تعاني من خسائر تقدر بـ 850 مليون دولار، منها 135 مليون دولار لعام 2004 وحده وديون متراكمة تبلغ 1.6مليار دولار.
في المقابل، هناك 50% من العاملين الكويتيين الذين يتقاضون رواتب عالية تستحوذ على 74% من إجمالي رواتب المؤسسة، ما يعني أن تكلفة العامل الكويتي تصل إلى ثلاثة أضعاف تكلفة العامل الأجنبي، في حين تشير بيانات المؤسسة إلى أن هناك ألف موظف كويتي فائض عن حاجة المؤسسة ويتقاضون رواتب مجزية لا تتناسب وإنتاجيتهم المتدنية.
هذه وضعية ليست لها علاقة بالاقتصاد أو بالإدارة الاقتصادية الناجحة، أما لماذا تحتفظ مؤسسة الخطوط الجوية الكويتية بهذا العدد الكبير من الأيدي العاملة الكويتية الفائضة عن حاجتها والتي تكلفها ما لا يقل عن 50 مليون دولار سنويا؟ ذلك لأن مجلس الأمة اتخذ قرارا سياسيا وهو يريد ذلك لإرضاء الناخبين.
ربما كان ذلك مقبولا في فترات سابقة عندما كانت مئات المؤسسات الاقتصادية في دول المجلس تتمتع بوضع احتكاري تحسد عليه، أما الآن في عصر المنافسة والأسواق المفتوحة، فان الأوضاع تغيرت تماما، ففي فترة قصيرة جدا تأسست شركات طيران خاصة في دول المجلس، بما في ذلك التراخيص الممنوحة في دولة الكويت، حيث تدار هذه الشركات على أسس تجارية بعيدة عن تأثيرات وأمزجة النواب والمرشحين للانتخابات.
ما أوردناه هنا عن مؤسسة الخطوط الجوية الكويتية هو مجرد مثل لما هو عليه الوضع في عشرات المؤسسات الاقتصادية في دول المجلس.
هل هناك حلول أخرى لمعضلة التوطين تتناسب والقوانين والأنظمة الاقتصادية السائدة؟ نعم وبكل تأكيد، ومرة أخرى هناك أمثلة ساطعة، فالبحرين "بحرنت" 98% من الجهاز المصرفي والمالي دون قرارات ودون تدخلات في عمل المؤسسات المالية والبنوك، كما حققت دولة الإمارات وسلطنة عمان نتائج مشابهة، أما السر فيكمن في التدريب والتأهيل حتى أصبحت مؤسسات القطاعين المشترك والخاص على قناعة بكفاءة وإنتاجية الموظف المواطن، حيث يعود الفضل في ذلك إلى معاهد التدريب المصرفي والتي لعبت دورا كبيرا في عملية التدريب هذه، بل إنها أخذت في نقل تجاربها لمساعدة البلدان العربية والنامية الأخرى للاستفادة من هذه التجارب. هذا على الرغم من أن البحرين وعمان وتحت ضغط المجالس المنتخبة اتخذت في الآونة الأخيرة خطوات اقرب للتجربة الكويتية، علما بان تجاربها السابقة والخاصة بالتدريب والتأهيل كانت ناجحة إلى حد بعيد.
فيما عدا ذلك، فان هناك إمكانيات كبيرة تتوفر لدى المؤسسات الاقتصادية الخليجية يمكن توجيهها بصورة أفضل مع منح العاملين رواتب مجزية تعكس الإنتاجية العالية التي تميز عملهم، سواء كانوا مواطنين أم وافدين.