«وعد بلفور» والثورة البلشفية
يتصادف نشر هذا المقال مع مئوية حزينة في تاريخ العرب. ففي العام الماضي، اختار منتدى «الاتحاد»، هذا المنتدى الاستثنائي الذي يجمع كل عام كتاب «وجهات نظر» في الصحيفة، تحليل مئوية اتفاق «سايكس بيكو»، المبرم بين بريطانيا وفرنسا. أساس ذلك الاتفاق السري، والذي كشفت عنه موسكو بعد نجاح الثورة البلشفية في سنة 1917، هو تقاسم أجزاء تركة الإمبراطورية العثمانية. عامل الغدر في اتفاق سايكس بيكو السري هو أن كلاً من بريطانيا وفرنسا وعدتا العرب بالاستقلال وتقرير المصير لإقناعهم بالاشتراك في الحرب ضد الإمبراطورية العثمانية، لكن ما كان يجري وراء ظهر العرب يختلف كثيراً عن هذه الوعود.
المنطق نفسه في العمل السري، بل الغدر، حدث بعد ذلك بأكثر من عام، وبالتحديد في 2 نوفمبر 1917 -أي منذ مائة عام بالضبط- عند إعلان «وعد بلفور». وللتذكير فإن بلفور هو «آرثر جيمز بلفور» وزير الخارجية البريطاني في ذلك التاريخ، والذي أرسل رسالته المقتضبة إلى ليونيل روتشيلد، زعيم الجالية اليهودية وصاحب الإمبراطورية المالية الشهير، متعهداً له نيابة عن بريطانيا بإنشاء دولة قومية لليهود في فلسطين. وبما أن هذا الوعد لم يشر إلى سكان فلسطين الأصليين وأصحابها الحقيقيين، وهم الغالبية السكانية في ذلك الوقت، اعتقد كثيرون خطأ أن فلسطين لم تكن إلا أرضاً فضاء يقطنها بعض المهاجرين اليهود القادمين إليها من بقاع الأرض المختلفة.
الخطأ الآخر في هذا التعهد كونه غير قانوني وغير أخلاقي؛ لأن فلسطين لم تكن مستعمرة بريطانية، مثل مصر أو الهند، بل كانت أرضاً تحت الانتداب البريطاني، أي تحت وصاية بريطانيا لكي تقوم بتأهيلها للاستقلال، أو كأمانة لدى لندن. ومن هنا فإن أفضل تعريف مبسط لوعد بلفور هو ذلك الذي أطلقه جمال عبدالناصر: «أعطي من لا يملك لمن لا يستحق». لقد خانت لندن الأمانة، قانونياً وأخلاقياً، وبالتالي أصبح إنشاء إسرائيل مثل عملية سطو مسلح، وله الآن مخالب نووية، ومستعد للتمدد باستمرار سواء عن طريق التوسع الاستيطاني أو حتى عودة البعض إلى شعار «من النيل إلى الفرات».
وهناك سؤالان مهامان حالياً:
1- لماذا تقوم رئيسة الوزراء البريطانية الحالية، وحزبها من المحافظين، بتخليد وعد بلفور عن طريق الاحتفال به، بل ودعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي وأعضاء بارزين من الجاليات اليهودية في العالم للاحتفال به في لندن؟ وقد كان جواب تيريزا ماي على السؤال، وببساطة شديدة: نحن فخورين بدورنا في إنشاء دولة إسرائيل، أو بالأحرى في «سرقة الأرض الفلسطينية»، وهو الدور المتواصل حالياً.
2- يتميز العالم العربي بما نستطيع تسميته «الكثافة المؤسسية»، فلديه جامعة الدول العربية التي سبق إنشاؤها تأسيس الأمم المتحدة ذاتها في سنة 1945. كما أن العديد من الدول العربية أعضاء مؤسسون وذوو تأثير فعال في مؤسسات أخرى، مثل منظمة الاتحاد الأفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي، علاوة على منظمات دولية أخرى، مثل اليونسكو وغيرها من منظمات الأمم المتحدة. ألا تكون مئوية وعد بلفور مناسبة للتذكير بحقيقته، ليس من أجل إلغاء التاريخ حتى ولو كان ظالماً، فهذا غير واقعي بالمرة، ولكن من أجل استعادة بعض الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني الذي هو من أَكثر لاجئي العالم، وذلك بدأ بوقف تمدد السرطان الاستيطاني الإسرائيلي الذي يهدد فلسطين نفسها بالاختفاء؟