نقترب حثيثاً من الذكرى السنوية لوفاة القامة الوطنية العراقية وأحد أبرز أعمدة الفكر القومي العربي ودعاته، الصديق الأستاذ الدكتور وميض عمر نظمي (أبو ذرى) الذي اشتهر عنه قوله: «لا يمكن أن أكون قومياً عربياً.. وأمنع غيري من التمسك بهويته القومية» (قاصداً الأشقاء الكرد الذين تنحدر عائلته منهم). ويجسد «وميض» المثقف العربي النظيف في زمن مفعم بالفساد، وهو أمرٌ جعل منه الشخصية النبيلة المعروفة عراقياً وعربياً ودولياً. كما كان وميض رجلا خلوقاً ومنارة في العلوم السياسية (علماً وممارسة)، فكان أحد مؤسسي «المؤتمر القومي العربي»، و«المؤتمر القومي الإسلامي»، وكان المناصر الدائم للحركات القومية والاشتراكية في الوطن العربي والعالم. ولد «وميض» في بغداد عام 1941، ?وتخرج ?في ?كلية ?الحقوق عام ?1964، ?وحصل ?على ?الدكتوراه ?في ?العلوم ?السياسية ?من ?جامعة ?درهام ?في ?المملكة ?المتحدة عام ?1974، ?وكان ?رئيساً ?للاتحاد ?العام ?للطلاب ?العرب ?في ?المملكة ?المتحدة ?وإيرلندا ?في ?الفترة ?بين عامي ?1971 ?و1974. ?وتولى ?لاحقاً ?رئاسة ?قسم ?العلوم ?السياسية ?في ?جامعة ?بغداد ?للفترة بين ?1976 ?و1982، ?وكان ?رئيساً ?لمركز ?الدراسات ?الفلسطينية ?في ?جامعة ?بغداد ?خلال ?عامي ?1980 ?و1981. ?وفي تلك ?الأثناء ?لعب ?دوراً ?بارزاً (?ولو ?من ?موقع «?المختلف» ?مع ?النظام ?البعثي ?الحاكم) ?في ?بناء ?العراق ?والسياسة ?العراقية. للمرحوم نظمي كتب ومقالات ومحاضرات وتراجم مختلفة في الفكر العربي الإسلامي، حملت عناوين مثل: «الفكر القومي العربي»، «الفكر الاشتراكي»، «التطور السياسي في العراق»، «الاستعمار والإمبريالية»، «التخلف والتنمية»، ودراسة مهمة عن «ثورة العشرين في العراق» وأخرى عن «شيعة العراق».. وكلها أعمال ودراسات تركت فينا أثراً وأطلعتنا على فكره الخالص وعروبته النقية، مثلما تعرفنا على مناقبيته عبر تلاميذ درسوا عليه في جامعة بغداد. ومن خلال صداقتي مع خاله الشهيد الدكتور «باسل الكبيسي» الذي اغتالته الاستخبارات الإسرائيلية في باريس عام 1973، ?توطدت ?العلاقة ?حثيثاً ?بيني ?وبين «وميض» ?حتى ?غدت ?متميزة، ?وذلك ?من ?خلال ?مشاركاتنا ?المنتظمة في ?المنتديات ?القومية ?والديمقراطية، ?وكذلك ?بفضل ?زياراته ?المتكررة ?لي ?في ?عمّان ?وحواراتنا ?عن ?الهموم ?العربية ?المشتركة.. ?حتى ?رحيله ?المفاجئ ?من ?عالمنا. كان الدكتور وميض مسؤولاً حزبياً عن رفيقه صدام حسين في «حزب البعث العربي الاشتراكي». وقبيل صعود صدّام إلى سدة الرئاسة، تحول وميض ليصبح ناصرياً معارضاً لنظام «البعث»، لكن دونما صدام معه! وكان قد طُرد من عراق نوري السعيد لرفضه حلف بغداد ولدعمه مصر أثناء العدوان الثلاثي (1956)?، ?فلجأ ?إلى ?بيروت ?وظل ?يقف ?بحزم ?مع ?قيادة ?عبدالناصر، ?ومع «?الجمهورية ?العربية ?المتحدة»، ?وضد انفصال ?سوريا ?عن ?مصر عام ?1961. ?كل ?هذا، ?رغم ?كونه ?من ?أسرة ?عريقة ?ومعروفة؛ تسلمت ?مناصب ?علمية ?وقضائية ?في ?العراق ?خلال ?العهد ?الملكي، ?حيث ?تقلد ?جده ?منصب ?نائب ?رئيس ?الوزراء ?ووزير ?الداخلية، ?كما ?تقلد ?والده ?منصباً ?وزارياً، ?وكان ?جده ?لجهة ?أمه ?المرحوم ?رؤوف ?الكبيسي ?من ?ضباط ?الثورة ?العربية ?بقيادة ?الشريف ?حسين. تألق وميض بصفته الأكاديمي البارز والشخصية المرموقة والمعارض الوطني الصلب والناصح لنظام «البعث» في مرحلة ما قبل الاحتلال الأميركي، متميزاً عن «مناضلي الفنادق»! كما كان السياسي الشريف الرافض لاستدراج الغزو الأجنبي واستدعائه والاستقواء به واستخدام «معارضته» جسراً لتبريره أو لعبور المستعمر إلى وطنه، إذ تبين له باكراً «بياض» خيط معارضة النظام من «سواد» خيط التحالف مع قوى متآمرة على الوطن! ومثلما كان معارضاً مختلفاً مع نظام الرئيس صدّام، كان من أبرز الشخصيات العراقية المقاومة للاحتلال –بكل إفرازاته- ولكل قوى الأمر الواقع الجديد، حيث أسس مع شخصيات عراقية «المؤتمر التأسيسي الوطني العراقي»، و«حركة التيار القومي العربي». وخلال الحصار القاسي على العراق، ترأس «اللجنة العربية للتضامن مع الشعب العراقي» عام 1991، ?وكان ?يرى ?مجرد ?بقائه ?في ?عاصمة ?الرشيد - ?مرابطاً ?بين ?أهله ?وتلاميذه رغم ?مصاعب ?سياسية ?ومجتمعية ?غير ?قليلة- ?أحد ?أشكال ?المقاومة ?ضد ?الاحتلال، ?رغم ?عروض ?العمل ?المغرية ?التي ?انهالت ?عليه ?من ?الخارج. ?كما ?رفض وميض ?تولي ?أي ?منصب ?سياسي ?حكومي ?عرض ?عليه، ?إدراكاً ?منه ?كسياسي ?مخضرم ?وعريق، ?مرهف ?الإحساس ?الوطني، ?أن ?هناك ?من ?يقود ?العراق ?إلى ?الهاوية ?من ?قادته ?الجدد ?وسلطة ?الميلشيات ?والحكم ?الفاسد، ?مكتفياً ?بالمشاركة ?في ?مؤتمرات ?سياسية ?ووطنية ?وقومية. رحل وميض وهو يرى في المحاصصة الطائفية والانقسام العرقي والمذهبي مشروعاً استعمارياً لتمزيق وحدة العراق، لا يقل عن غلو وتعصب الجماعات الإرهابية والميلشيات الطائفية والتدخل الأجنبي، لذا، لا عجب أن لجأ مع شخصيات عراقية وطنية وازنة لتشكيل أطر وطنية عابرة لها، ومات وهو يراهن على وحدة بلده وعروبته، وحرية أبنائه والمساواة بين مكوناته السياسية والاجتماعية في الحقوق والواجبات، وظل حلمه بناء جبهة وطنية عراقية شاملة يسهم فيها التيار القومي في العراق بجهد متميز لدعم ومساندة القوى الوطنية وأحرار العراق في كل المحافل. وبذلك، تجاوز (وميض الإنسان).. «وميض البرق» وغدا نوعاً من «الوميض الفسفوري»، أو «الوميض الدائم» الذي يطلق الضوء بعد زوال مصدر الطاقة (توهج الحياة)! لقد تحولت ذاكرتي هذه السنة والتي قبلها إلى مثوى أخير لمن غادرني من الأحبة: وميض نظمي، هاني الهندي، ومن بعدهما غازي السعدي وزهير الخطيب.. وكلهم أوجه لعملة واحدة هي القومية العربية. ومن المؤكد أن هؤلاء سيبقون أحياء في قلوبنا وعقولنا، رغم أننا نبكيهم ونبكي على أنفسنا لفراقهم.