العلاقة بين الإنسان والميكروبات بأنواعها من بكتيريا وفيروسات وغيرهما من أنواع الجراثيم، علاقة قديمة جدا بدأت مع ظهور الإنسان على سطح الأرض منذ قديم الأزل· هذه العلاقة التاريخية تطورت خلال تلك الفترة الزمنية الطويلة إلى شكلين رئيسيين؛ هما الضرر والمرض والموت، أو الفائدة والمنفعة المتبادلة· فعلى رغم أن معظمنا يربط بين الجراثيم وبين الأذى والمرض، إلا أن الحقيقة هي أن الميكروبات تلعب دورا رئيسيا في الحفاظ على التوازن البيئي على الكوكب، وربما ما كان ليمكن للحياة أن تصل إلى شكلها الحالي، لولا وجود الجراثيم والميكروبات حولنا· وإحدى أكبر وأهم الوظائف التي تقدمها البكتيريا للحياة والبيئة، هي تخليصهما من بقايا الكائنات الحية الأخرى الميتة من خلال عملية التعفن والتحلل· فلنا أن نتخيل لو لم تخلص البكتيريا كوكب الأرض من ملايين الجثث من الحيوانات والنباتات التي تموت كل يوم· لولا هذه العملية الطبيعية لكانت الأرض قد امتلأت بمئات الملايين من الجثث إلى درجة تصبح الحياة معها مستحيلة· ولا يقتصر عمل البكتيريا على البقايا الطبيعية فقط، بل يمتد أيضا إلى المخلفات (السامة أحيانا) التي تنتج من النشاطات البشرية· ففي الكثير من حالات التلوث البيئي، لا يجد الإنسان أمامه إلا البكتيريا الطبيعية لتخليصه من المخلفات الكيميائية والصناعية التي صنعتها يداه· ولا يقتصر الدور الحيوي للبكتيريا على المخلفات فقط، بل يمتد أيضا إلى طعامنا، فالكثير من أصناف الطعام التي تشكل جزءاً رئيسيا من الطعام البشري، هي في الحقيقة من نتاج وتصنيع البكتيريا· أحد أهم تلك الأطعمة هي منتجات الألبان مثل الجبن والزبادي، اللذان شكلا جزءاً رئيسياً من غذاء الإنسان على مدار التاريخ·
وحتى أجسادنا، يوجد داخلها وخارجها أكثر من ستة مليارات ضيف يعيشون معنا بشكل يومي· هؤلاء الضيوف هم خلايا البكتيريا غير المسببة للأمراض والمعروفة طبيا بـ الفلورا · وتعيش تلك البكتيريا في سلام ووئام كامل مع محيطها من الأنسجة والأعضاء البشرية، حيث تتزاوج وتتكاثر وتتغذى وتنمو دون أن نشعر بوجودها· وجود هذه البكتيريا ليس مرضا، بل هو حالة من التوازن الحيوي يستفيد منه جميع الأطراف المشاركة فيه من إنسان وبكتيريا، ومن خلال تبادل العديد من الخدمات الحيوية المهمة والضرورية مع بعضها بعضا· فمثلا لا يمكن للجسد البشري هضم الكثير من الأطعمة التي نتناولها يوميا، دون أن تقدم البكتيريا الموجودة في الأمعاء يد العون والمساعدة· ومنذ أن بدأت الفلورا في تقديم خدماتها الجليلة للجنس البشري منذ آلاف السنين، تمتعت العلاقة بيننا وبينها بتوازن حقق لكلا الطرفين منافع جمة· وهي العلاقة والتوازن اللذان بدآ في الاختلال مؤخرا مع اكتشاف المضادات الحيوية ومع إساءة استخدامها، ليس فقط بين الإنسان وبين البكتيريا المفيدة بل بينه أيضا وبين الجراثيم المرضية·
ففي رحلة البحث عن علاج يقي من الآثار المرضية للجراثيم المؤذية، تمكن الإنسان من تحقيق اختراقات هائلة في غضون عقود قليلة· ولكن مع تزايد حجم النجاح المحقق، بدأت الآثار السلبية والأعراض الجانبية في التراكم بمرور الوقت· أحد أهم تلك الآثار السلبية، هو تزايد ظهور البكتيريا المقاومة لجميع أنواع المضادات الحيوية· فهذه المخلوقات المجهرية والموجودة على سطح كوكب الأرض منذ مليارات السنين، لديها القدرة على تغيير تركيبها وتغيير العمليات الحيوية بداخلها بشكل مذهل· ولذا إذا ما تعرضت للمضاد الحيوي بكمية غير كافية أو لفترة قصيرة دون أن يقتلها، فيمكنها أن تغير من العمليات الحيوية داخلها، بحيث تستطيع في المستقبل أن تتجنب الأثر السمي للمضاد الحيوي عليها· وهناك عامل آخر يزيد من قدرة البكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية، وهو الطفرات الجينية التي تحدث بشكل طبيعي في البكتيريا عند انقسامها وتكاثرها· هذا بالإضافة إلى الاستخدام الخاطئ للمضادات الحيوية من قبل المرضى والأطباء· فكثيرا ما نرى مرضى توقفوا عن العلاج قبل الوقت المحدد، والمشكلة في ذلك أن المضاد الحيوي في حاجة إلى وقت محدد كي يتمكن من التخلص من البكتيريا، وإذا ما توقف العلاج قبل الوقت المفترض للقضاء النهائي على الميكروب، فإن هذه البكتيريا ستبدأ في توليد مقاومة لهذا المضاد الحيوي· ويقع الجزء الثاني من اللوم على الأطباء، كسبب رئيسي خلف ظهور هذه المشكلة· فالإحصائيات تشير إلى أن 50 في المئة من وصفات المضادات الحيوية من الأطباء، هي وصفات لا داعي لها ولا تؤيدها الضرورات الطبية·
هذا الوضع الطبي الخطير أصبح البعض يتنبأ بأنه سيتحول في غضون أعوام قليلة إلى كارثة، يلقى من جرائها الآلاف حتفهم بسبب الأمراض البكتيرية· فحسب تقدير البروفيسور هيو ماكجوفاك )kcavoGcM hguH( من جامعة ألستر ببريطانيا، سوف تصبح معظم المضادات الحيوية عديمة الفائدة خلال الإثني عشر عاما القادمة بسبب تطور قدرة الميكروبات على مقاومتها· هذا الأستاذ الجامعي والذي يتخصص في علم الوصفات الطبية، يرى أيضا أن مشكلة فقدان