ليس عسيراً تلمس الرابطة السببية بين الديمقراطية وعدم وقوع المجاعات. فالمجاعة تقتل مئات الآلاف وربما الملايين من عامة الشعب دون أن يمس الرؤساء والنخبة الحاكمة... أي سوء! وإذا انعدمت المساءلة والحريات، فإن رجال السلطة، كما هو الأمر في كوريا الشمالية اليوم مثلاً، لن يعانوا من جراء سياستهم الفاشلة. وقد وقعت المجاعات في الممالك القديمة، وفي المجتمعات الاستبدادية المعاصرة، وفي المجتمعات القبلية البدائية، وكذا في النظم الديكتاتورية التكنوقراطية الحديثة، وفي الاقتصادات الاستعمارية التي كان يديرها الاستعماريون، وفي البلدان المستقلة حديثاً في الجنوب، التي يديرها قادة قوميون استبداديون أو أحزاب فردية، ولكن، كما يلاحظ الاقتصادي الهندي أمارتيا صن، "لم تقع قط مجاعات بمعنى الكلمة في أي بلد مستقل يُجري الانتخابات بشكل منتظم، ولديه أحزاب معارضة تعبر صراحة عن انتقاداتها، ويسمح بصحافة حرة".
ويقول: يمكن توضيح الرابطة بين الحقوق السياسية والاحتياجات الاقتصادية، عن طريق تدبر المجاعات الصينية الضخمة في الأعوام 1958-1961. لقد كانت الصين، حتى قبل سنوات الإصلاح قريبة العهد، أكثر نجاحاً من الهند في مجال التطوير الاقتصادي في مجالات مهمة كثيرة، مثال ذلك ارتفاع متوسط العمر المتوقع في الصين، بحيث كان أعلى كثيراً من نظيره في الهند. ومع هذا أخفقت الصين تماماً وعجزت عن اتقاء المجاعات.
وأودت مجاعات الصين 1958-1961 بحياة ما يقرب من ثلاثين مليون نسمة. ويزيد هذا الرقم على عشرة أمثال من قتلتهم المجاعة الهائلة في الهند عام 1943، وهي في ظل السيادة البريطانية.
وبعد سلسلة من المغامرات الاقتصادية الكارثية في الصين، التي سماها "ماو" بـ"الخطوة الكبيرة إلى الأمام"، والتي لم يسمح لأحد طبعاً بانتقاد نتائجها، أبدى "ماو" الملاحظة التالية في اجتماع حزبي موسع: من دون ديمقراطية لن يتوافر لنا فهمٌ لما يحدث في المستويات الأدنى.
وفي العالم الثالث، يقول الاقتصادي الهندي، في ملاحظة تلخص ربما المأساة العربية بالذات: كانت الحركات القومية مناهضة بقوة للاستعمار، ولكنها لم تكن دائماً متجهة وبإصرار نحو الديمقراطية. ولم يحدث إلا أخيراً فقط أن حظي التأكيد على قيمة الديمقراطية ببعض التقدير السياسي في كثير من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء. ولم تسهم الحرب الباردة التي كانت دائرة في العالم بأي دور كان في هذا، إذ كانت الولايات المتحدة والغرب مستعدين لمساندة الحكومات غير الديمقراطية إذا كانت معادية للشيوعية. والجدير ذكره هو أن المجتمع لا يفتقد دور الديمقراطية ما دامت الأمور تجري سلسة وعلى نحو روتيني جيد. ولكن تظهر الحاجة إلى الديمقراطية واضحة عندما تتعقد الأمور لسبب أو لآخر.
ولكن أليس تركيز الاهتمام على الديمقراطية والحرية السياسية ضربا من الترف لا يتحمله بلد فقير؟ أليست الأولوية، وبشكل منطقي لا يقاوم، للضرورات الاقتصادية؟
إن شدة المطالب الاقتصادية وكثافتها، كما يؤكد الباحثون، تضيفان إلى -ولا تنقصان من- الضرورة الملحة للحريات السياسية. ويستخدم المعارضون للأطر الديمقراطية في البلدان النامية عادة بعض الحجج المعروفة: أولاً، الزعم بأن هذه الحريات والحقوق تعيق النمو الاقتصادي والتنمية، وهذه تُدعى "فرضية لي"، نسبة إلى "لي كوان" رئيس وزراء سنغافورة السابق.
ثانياً، هناك من دفع بأن الناس إذا ما أعطيت لهم حرية الاختيار بين أن تتوافر لهم الحريات السياسية أو إيفاء الحاجات الاقتصادية، فإنهم جميعاً سيختارون الثانية.
ثالثاً، كثيراً ما يدفع البعض بأن التأكيد على الحرية السياسية والحريات الاجتماعية والديمقراطية إنما يمثل تحديداً أولوية "غربية"، قد يتعارض مع "القيم الآسيوية" التي تحبذ النظام والانضباط أكثر من الحرية. فالرقابة على الصحافة مثلاً، كما يقال، قد تكون مقبولة أكثر داخل مجتمع آسيوي، بسبب التأكيد على الحزم والانضباط، على عكس الحال في الغرب. بل إن وزير خارجية سنغافورة، أكد في مؤتمر فيينا عام 1993 من أن "الإقرار العالمي الشامل بأن حقوق الإنسان مثل أعلى يمكن أن يكون ضاراً إذا ما استخدمنا النزعة العالمية الشاملة لإنكار أو اخفاء حقيقة التنوع".
ولكن الملاحظ أن لا سنغافورة ولا الصين ترفضان مخترعات ومنتوجات الغرب حفاظاً على القيم الآسيوية وحماية للتنوع! ويتساءل التنمويون: هل نظام الحكم الاستبدادي مثمر فعلاً بالدرجة نفسها؟
الشيء المؤكد، يجيب بعض هؤلاء، أن مجموعة من الدول "الاستبدادية نسبياً"، مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة في عهد "لي" والصين بعد الإصلاح، حققت معدلات نمو اقتصادي أسرع من بلدان أقل منها استبداداً كالهند وكوستاريكا وجامايكا. ولكن "فرضية لي"، يقول الاقتصادي الهندي أمارتيا صن، مبنية في الواقع على أساس معلومات انتقائية ومحدودة جداً. "ونحن لا نستطيع في الحقيقة أن نأخذ النمو الاقتصادي المرتفع في الصين أو كوريا الجنوبية في آسيا كبرهان حاسم على أن نظام الحكم الاستبدادي ناجح في ال