«سأبدأ بالعمل سريعاً لإنجاز تشكيلة حكومية آمل أن أعرضها على فخامة رئيس الجمهورية في أسرع وقت ممكن». تصريح لم يكن في دائرة المتوقع السياسي حتى وقت قريب في لبنان، فهو صادر من سعد الحريري، والرئيس الذي يشير إليه هو العماد ميشال عون! لكنها تحولات لبنان ومواقف نخبه والتبدلات الإقليمية من حوله. فيوم السبت الماضي، أنهى الحريري، المكلف بتشكيل الحكومة اللبنانية، يومين من الاستشارات النيابية لاختيار الوزراء الجدد وتوزيع الحقائب الوزارية، ثم توجه إلى قصر بعبدا وأطلع الرئيس عون على محصلة اتصالاته. وكان عون قد أصدر قرار تكليف الحريري برئاسة الحكومة، يوم الخميس الماضي، بعد ثلاثة أيام على انتخابه، في إطار تسوية سياسية أتت كذلك بعون رئيساً للجمهورية، وبموافقة الأطراف السياسية اللبنانية (والإقليمية أيضاً) على التسوية الجديدة. لكن ما المطلوب من الحريري في المرحلة الحالية؟ وما التحديات والمصاعب التي تنتظر حكومته؟ ومَن الحريري شخصياً؟ وما الخبرات والقدرات التي يعتمد عليها لمواجهة مصاعب وتعقيدات الحالة اللبنانية؟ سعد الحرير سياسي ورجل أعمال لبناني، وهو رئيس حكومة لبنان المكلف حالياً، وقد سبق أن ترأسها بين عامي 2009 و2011. وُلد «سعد الدين الحريري» عام 1970 في الرياض بالمملكة العربية السعودية، لوالده رجل الأعمال ورئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، من زوجته الأولى العراقية «ندا البستاني». وقد نشأ سعد وترعرع في السعودية، حيث كان والده يعمل في قطاع الأعمال والمقاولات، بعد وصوله إلى المملكة مهاجراً في أواخر الستينيات. وبعد أن أتمَّ دراسته الابتدائية والثانوية، درس سعد في كلية ماكدونو لإدارة الأعمال في جامعة جورج تاون، ليتخرج منها بشهادة البكالوريوس في إدارة الأعمال عام 1992. بعدئذٍ عاد إلى السعودية ليتولى إدارة جزء من أعمال والده، فشغل منصب المدير التنفيذي لـ«شركة سعودي أوجيه»، ورئاسة اللجنة التنفيذية لـ«شركة أوجيه-تليكوم»، كما ترأس مجلس إدارة الشركة القابضة «أمنية هولدنغز»، وكان عضواً في مجلس إدارة شركات «أوجيه الدولية» و«مؤسسة الأعمال الدولية» و«بنك الاستثمار السعودي» و«مجموعة الأبحاث والتسويق السعودية» وتليفزيون «المستقبل».. لذلك صنفته مجلة «فوربس» في سنة 2007 ضمن لائحة أغنى أثرياء العالم، بثروة تصل نحو 2.3 مليار دولار. وقبل ذلك بعامين كان سعد الحريري قد دخل مجال العمل السياسي، كوريث لوالده الذي اغتيل في 2005، فشكل تحالف «14 آذار» مع كل من سمير جعجع وأمين الجميل ووليد جنبلاط، وقادوا معاً ما عُرف باسم «ثورة الأرز» التي طالبت بخروج الجيش السوري من لبنان. وتم انتخاب سعد في 2005 ممثلاً لدائرة بيروت الأولى التي كان والده يشغل مقعدها في البرلمان. وفي تلك الانتخابات استطاع «14 آذار» نيل أكبر كتلة برلمانية، فقاد الحكومة ممثلاً في فؤاد السنيورة. وفي الدورة البرلمانية التالية عام 2009 حصل التحالف أيضاً على أكبر كتلة برلمانية، وأعيد انتخاب سعد الحريري لمقعده البرلماني، فتمت تسميته رئيساً للحكومة من قبل 86 نائباً ضمنهم نواب تحالفه البالغ عددهم 71 نائباً. وفي 27 يونيو كلّفه الرئيس ميشال سليمان بتشكيل الحكومة، وبعد شهرين ونصف قدّم تشكيلته المقترحة، لكن خصومه في البرلمان («حزب الله» وحلفاؤه) رفضوا هذه التشكيلة، فاعتذر عن الاستمرار في محاولاته لتأليف الحكومة. بيد أن رئيس الجمهورية قرّر تكليفه مجدداً بعد أن أعادت الأغلبية البرلمانية تسميته. وأخيراً استطاع الحريري، وبعد مفاوضات دامت خمسة أشهر، تشكيل ثاني حكومة لبنانية بعد خروج الجيش السوري من لبنان. وواجهت حكومة الحريري الأولى صعوبات لا تقل عن مصاعب التشكيل أصلاً، فعدا عن الأزمة الاقتصادية جراء تراجع السياحة والاستثمارات الأجنبية والآثار الثقيلة للحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، اصطدمت الحكومة الجديدة بمعضلة التحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري، خصوصاً مع اقتراب صدور القرار الظني حول عملية الاغتيال، وإصرار وزراء «حزب الله» وحركة «أمل» و«التيار الوطني الحر» على طرح موضوع «شهود الزور» في القضية، وطلب إحالتهم إلى المجلس العدلي. وأدى تباين المواقف بشأن «محكمة الحريري» إلى استقالة وزراء الكتل الثلاث (الثلث + 1) في يناير 2011، مما أفضى إلى فقدان الحكومة نصابها الدستوري واعتبارها مستقيلة، وإن استمرت كحكومة تسيير أعمال حتى تم تعيين نجيب ميقاتي رئيساً لحكومة جديدة في يونيو 2011. بعد ذلك غادر الحريري إلى فرنسا ولم يعد للبنان إلا في أغسطس 2014، وقد تفاقمت أزمات البلاد في ظل حكومة ميقاتي، ومن بعده «تمام سلّام»، لا سيما مع العجز عن تنظيم الانتخابات البرلمانية في موعدها عام 2013، ثم قيام البرلمان في نوفمبر 2014 بالتمديد لنفسه مرة أخرى حتى عام 2017، هذا علاوة على التوتر الطائفي في عدة مناطق من البلاد على خلفية التباينات اللبنانية حيال الحرب السورية، ثم الأزمة التي أحدثها لجوء قرابة المليون سوري إلى الأراضي اللبنانية، وأزمة القمامة والتلوث، وتفاقم الديون الخارجية، والتراجع القياسي لحركة السياحة، فضلاً عن بقاء منصب رئاسة الجمهورية شاغراً مدة عامين ونصف العام بعد انتهاء مأمورية الرئيس ميشال سليمان. وقد اتضح للبنانيين مع مرور الوقت أنه لا بد من مقاربة توافقية لتجاوز الانسدادات، خصوصاً بعد إخفاق ثلاثة مسيحيين أقوياء رشحهم الحريري للمنصب الرئاسي على التوالي، هم سمير جعجع وأمين الجميل وسليمان فرنجية.. لذا كانت مبادرته الأخيرة بمفاوضة «عون» ودعم ترشحه لرئاسة لبنان. ورغم أن خطوته مثلت مغامرة كبرى، لا سيما أن زعيم «التيار الوطني الحر» حليف لكل من «حزب الله» وإيران والنظام السوري. لكن تأكيده في خطاب القسَم على اتفاق الطائف، ووثيقة الوفاق الوطني، ومواثيق الجامعة العربية، وعلى تحييد لبنان عن صراعات المنطقة.. بثّ شيئاً من الاطمئنان. هذا علاوة على أنه لا بديل للبنان عن سد الفراغ الرئاسي الممتد، وإعادة تفعيل المؤسسات.. سوى سقوط الدولة والتردي إلى قاع الفوضى. ومما ساعد على إنجاز صفقة تصعيد الحريري وعون إلى منصبيهما الجديدين على رأس هرم السلطة في لبنان، أن الأطراف الإقليمية -على خلافها البيِّن في عدة ملفات أخرى (بعضها ساخن كما هو الحال في اليمن)- دفعت نحو التشجيع على إتمام الصفقة، إبقاءً للبنان، البلد الصغير وساحة الصراعات الإقليمية منذ عدة عقود، بمنأى عن دائرة الاضطرابات الدموية ومفاعيلها المتواصلة في بلدان عربية أخرى أكثر انسجاماً واندماجاً. وربما يستطيع لبنان تجنب مثل ذلك المصير في ظل حكومة ائتلافية جديدة يرأسها الحريري، متسلحاً بدعم إقليمي ملحوظ، وبخبرته على رأس الحكومة السابقة، وما استخلصه من دروس وهو يراقب أحوال بلده والبلدان الأخرى خلال السنوات الماضية. ولعل ذلك يفسر سلاسة المرحلة الأولى من جهوده لتشكيل الحكومة والتجاوب الذي أبدته الأطراف السياسية اللبنانية بهذا الشأن. فهل يتواصل ذلك التجاوب لإعانة الحريري على حلحلة الملفات اللبنانية المعقدة، الاقتصادية والمالية والأمنية والبيئية؟! محمد ولد المنى