عنف الحركات الإسلامية المتطرفة آفةٌ اكتوى بنارها العالم العربي والإسلامي قبل وأكثر من أي مكان آخر من العالم، ذلك أن عدد من قضوا من المدنيين الأبرياء، من العرب والمسلمين، جراء إرهاب هذه التنظيمات، يفوق بكثير عدد من ماتوا بسببه في بقية أنحاء العالم كافة. على أن الضرر الذي تلحقه هذه التنظيمات بالإسلام والمسلمين لا يقتصر على الأرواح التي تزهَق، وإنما يشمل أيضاً تشويه صورة الإسلام والمسلمين الذين يتبرؤون من هذه الأعمال والممارسات الدموية. والواقع أنه لا يوجد موضوع استأثر باهتمام الجمهور خلال السنين الأخيرة، مثلما فعل شبح الجماعات الجهادية العالمية التي نشرت الرعب وروّعت الآمنين عبر هجمات تنفذها، إما بشكل مباشر عبر مهاجمين وانتحاريين، وإما عبر الإيعاز إلى أتباعها والمتعاطفين معها بتنفيذها في أماكن بعيدة، ليس فقط في العراق وسوريا، ولكن أيضاً في تونس ومصر وتركيا وفرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة وغيرها، وهو ما يستوجب فهماً دقيقاً للأفكار والقناعات التي تحرّك هذه الجماعات وتدفع منتسبيها والمتعاطفين معها إلى ارتكاب أعمال قتل وتنفيذ عمليات انتحارية. فما هذه الأسس الفكرية لأتباع هذه التنظيمات؟ وكيف يبرّرون أعمالهم الدموية المقيتة؟ في كتاب «السلفية الجهادية.. تاريخ فكرة»، يدرس الكاتب البريطاني من أصل باكستاني «شيراز ماهر» الأسس الفكرية للسلفية الجهادية منذ ظهورها في جبال هندوكوش، وصولاً إلى ظهور الحركات الجهادية في حروب التسعينيات وتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، سارداً قصة عقيدة مرنة وبراجماتية تكافح من أجل المزاوجة بين مثالية النظري وواقع الممارسة. ماهر، الباحث في «المركز الدولي لدراسة التطرف» التابع لكلية كينج في جامعة لندن، يقدّم في هذا الكتاب «الظروف والسياق لفهم الكيفية التي وصلت بها السلفية الجهادية إلى ما وصلت إليه اليوم». ووفق المؤلف، فإن كل السلفيين الجهاديين يؤمنون بخمسة مبادئ أيديولوجية جوهرية هي: مبدأ «الجهاد». ولئن كان معظم العلماء يشددون على أن الجهاد الأكبر إنما هو جهاد النفس، فإنه بالنسبة إلى السلفيين الجهاديين هو مسألة عسكرية وواجب يحل من حيث الأهمية في المرتبة الثانية بعد إعلان الشهادتين، وينبغي أن يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أما بقية الأركان الإيديولوجية الخمسة للسلفية الجهادية، فهي: «التوحيد» و«الحاكمية»، و«الولاء والبراء»، ثم «التكفير». أما السلفية على العموم، أي السلفية العلمية، فهي حركة إصلاح ديني تدعو إلى العودة إلى الممارسات الدينية القديمة، كما كانت لدى السلف الصالح عندما كان الدين خالياً من الشوائب والبدع، كما يقول أتباع هذه الحركة. ومن نماذجها الحركة «الوهابية» التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر. وحسب الكتاب، فإن ثمة أفكاراً أخرى ظهرت في سياق الإسلام السياسي بين عقدي الأربعينيات والستينيات من القرن العشرين، وخاصة الحاكمية والرغبة في إقامة خلافة إسلامية، مع ترجمة أعمال الهندي أبو العلاء المودودي من اللغة الأردية إلى اللغة العربية، من قبل أبو الحسن الندوي. أعمال راجت وانتشرت لاحقاً على يد سيد قطب، الذي يُعتبر أحد المنظرين المؤسسين لجماعة «الإخوان المسلمين» المصرية. ويقول ماهر في هذا الصدد: «إن أعمال قطب ألهمت أكثر من جيل من الإسلاميين.. كما أثّرت- بشكل آو بآخر- في الإطار التنظيري لمعظم الحركات المتشددة في الشرق الأوسط». تهجين السلفية والأصولية الإسلامية الذي أنتج السلفية الجهادية، هو أحد الجوانب المهمة التي يلقي عليها الضوءَ هذا الكتاب، إذ يشير إلى أنه إذا كانت كل الأفكار التي يستعملها السلفيون الجهاديون لها أصل ما في التراث الإسلامي، فإنهم «يؤوّلونها ويصوغونها بطرق فريدة وخاصة جداً»، ساعين من وراء ذلك إلى إعادة تشكيل ملامح العقيدة الدينية الإسلامية بشكل كلي على المدى الطويل. بيد أن تركيز ماهر على ما يجمع التنظيمات المختلفة تحت لواء السلفية الجهادية، يتغافل عن بعض التفاصيل والعناصر المهمة، وخاصة في ما يتعلق بالانقسام القائم حالياً بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش». وهنا ربما كان يجدر بالمؤلف تخصيص حيّز أكبر لتوضيح الخلافات الأيديولوجية بين التنظيمين، لأسباب عديدة ليس أقلها كون الحرب، مثلما يشدد هو نفسه على ذلك، هي الحافز الأكبر للتجديد والمراجعة داخل الحركة. فحتى إذا كانت خلافات «داعش» تكتيكية خالصة، فإن التنظيم يستعمل الآن النصوص الدينية لتبرير فظاعاته على نحو سيصبح مقعّداً وربما من المؤكد أن تنظيمات مماثلة قد تحاكيه في المستقبل. ولئن كان صحيحاً أن تنظيم «داعش» قد اشتهر أكثر بأشرطة الفيديو الوحشية التي ينشرها على وسائل التواصل الاجتماعي وبرسائله الإعلامية الدعائية المتطورة، مثلما يلفت إلى ذلك ماهر، فإن منظّرين كباراً في التنظيم، مثل تركي البنعلي، أخذوا ينتجون كتابات عديدة حول عقيدة التنظيم ورؤيته الأيديولوجية. وتدريجياً، اتسع هذا التوجه في وقت لاحق كي يشمل تسجيلات صوتية لخطب ومحاضرات لأبي علي الأنباري بالخصوص، نائب أبو عمر البغدادي (زعيم التنظيم)، الذي قُتل مؤخراً في غارة أميركية على موقع لـ«داعش» في شرق سوريا. بيد أن شيراز ماهر يلفت في كتابه إلى أننا إزاء ظاهرة حديثة نسبياً، إذ يقول: «إن أبرز فترة في تطور الفكر المناوئ للغرب في تاريخ التفكير السلفي الجهادي، وقعت خلال السنوات التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية»، مشيراً إلى أنه في عام 2005 تحدى تنظيم «القاعدة» في العراق كل مسلم ليعيد النظر في المبادئ الأساسية للتعايش السياسي، وذلك عندما أعلن «أن كل المبادئ والأفكار العلمانية، مثل القومية العربية والشيوعية والبعثية، تمثّل انحرافاً سافراً عن الإسلام». ومن أبرز تنظيمات السلفية الجهادية التي أثارت مداداً كثيراً، ليس فقط بسبب أساليبها الوحشية، والتي لا تتوانى في تبريرها بنصوص فقهية مشكوك في صحتها، ولكن أيضاً بسبب نجاحها النسبي في تأكيد قوتها وبسط سيطرتها على مناطق بعينها، هو تنظيم «داعش»، الذي يسمي نفسه «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ذلك أنه لم يسبق لأي تنظيم من تنظيمات السلفية الجهادية أن فاقه قوةً وإلحاحاً على تأكيد القوة السياسية والترابية. غير أن ماهر يشير إلى أن آراءه الفقهية تُعتبر من قبل معظم الفقهاء «شاذة ولا تنطبق سوى على حالات خاصة جداً»، لا بل إن حتى «خطيب لندن» الشهير أبو قتادة، الذي يُتهم بالتشدد، قال عنهم مرة إنهم مارقون بسبب استعمالهم العشوائي للقتل. وعلى سبيل المثال، فعندما أقدم مقاتلو «داعش» على قتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقاً داخل قفص، يقول ماهر، فإن مقاتلي التنظيم كانوا يدركون أن رأي جمهور العلماء هو أن الإسلام يحرّم استعمال النار كعقاب، لكنهم أتوا برأي فقهي غير معروف زعموا أنه يبرّر فعلتهم. وحسب ماهر، فإن ذلك كان «إحدى الطرق التي يحاول بها التنظيم جلب آراء فقهية عدمية وغير معروفة إلى واجهة التفكير السلفي». ويختتم ماهر كتابه بنبرة تشاؤمية. ذلك أنه بينما تتواصل المعركة لتحرير الموصل ويتم إعداد العدة لمعركة الرقة، معقل «داعش» الرئيس في سوريا، يواصل السلفيون الجهاديون نشر فهمهم الأعوج والشاذ للدين. ويرى أنه حتى إذا تم القضاء عليهم في سوريا والعراق، فإن عدداً من التنظيمات السلفية الجهادية تنتظر لسد الفراغ الذي سيخلفونه. غير أن ماهر يستحق الإشادة لأنه نجح في أن يجمع في كتاب واحد عملاً يلخّص المكونات الفكرية لجماعات السلفية الجهادية، ولا شك أن القراء الذين يبحثون عن مادة قوية وميسّرة الفهم في آن واحد حول أفكار «داعش» ومثيلاتها سيجدون ضالتهم في هذا الكتاب. كما أنه يمثل مرجعاً غنياً ومفيداً للطلبة والباحثين أيضاً. محمد وقيف الكتاب: السلفية الجهادية.. تاريخ فكرة المؤلف: ماهر شيراز الناشر: أوكسفورد يونيفرسِتي برِس تاريخ النشر: 2016