التهاب الكبد الفيروسي: الاختراقات والتحديات
في نهاية الأسبوع الماضي أطلقت منظمة الصحة العالمية تقريراً عن مدى توافر الأدوية والعقاقير الطبية المستخدمة لعلاج التهاب الكبد الفيروسي (C)، مع التركيز على الإجراءات والتدابير اللازمة لتخطي العقبات التي تمنع توافرها على المستوى الدولي. كما أظهر هذا التقرير كيف يمكن للإرادة السياسية، بالترافق والتضامن مع دعم مؤسسات المجتمع المدني، وسبل التفاوض حول آليات التسعير، أن تكون ذات فعالية في مواجهة مرض يقتل مئات الآلاف سنوياً، ويلقي بعبء ثقيل على المصادر البشرية والمالية لنظم الرعاية الصحية في العديد من دول العالم.
فحسب تقرير صدر بداية يوليو الماضي عن فريق من علماء بجامعة «إمبريال كوليدج لندن» في بريطانيا، وبالتعاون مع علماء جامعة «واشنطن» في الولايات المتحدة، ونُشرت نتائجه في واحدة من أشهر الدوريات الطبية في العالم (The Lancet)، ظهر أنه رغم توافر تطعيم يحقق الوقاية ضد فيروسي (B) و(A)، وتوافّر علاج يحقق الشفاء ضد فيروس (C)، لا زالت الوفيات من التهابات الكبد الفيروسية بجميع أنواعها، تتخطى حالياً عدد الوفيات الناتجة عن مرض نقص المناعة المكتسبة أو الإيدز، وتقارب الوفيات الناتجة عن ميكروب السل، بناء على أن وفيات التهابات الكبد الفيروسية قد زادت من أقل من مليون وفاة عام 1990، لتصل إلى 1,45 مليون وفاة عام 2013، مقارنة بمجرد 1,2 مليون حالياً من فيروس الإيدز، و1,5 مليون من ميكروب السل.
ومما لا شك فيه أن السنوات الأخيرة شهدت تطورات واختراقات هائلة على صعيد علاج فيروس (C)، وخصوصاً ما يُعرف بمضادات الفيروسات مباشرة التأثير (Direct Action Antiviral)، وعلى رأسها عقار «سوفالدي» الشهير. وتعود شهرة هذا العقار إلى سببين رئيسيين، فعاليته الهائلة، والجدل حول تسعيرته. فعلى صعيد الفعالية، يتميز هذا العقار بالقدرة على تخليص ما بين 94 إلى 97 في المئة من المرضى من الفيروس، وخلال فترة علاج تستغرق ثلاثة أشهر فقط، وهو ما يعتبر اختراقاً طبياً هائلاً بكل المقاييس. وذلك مقارنة بأن حتى طرح «سوفالدي» في الأسواق بداية عام 2014، كان نظام العلاج المتاح لمرضى التهاب الكبد الفيروسي، والمعتمد على البروتينات المناعية المعروفة بـ«الإنترفيرون»، يستغرق ما بين 6 إلى 12 شهراً، وبنسبة فعالية 70 في المئة فقط -أو أقل- وبأعراض جانبية كثيرة، مثل الأنيميا، والاكتئاب، والطفح الجلدي الشديد، والغثيان، والإسهال، والإرهاق المزمن.
وهو ما دفع بهيئة الأغذية والعقاقير الأميركية أمام هذا التطور الطبي المهم، إلى منح «سوفالدي» صفة الاختراق العلاجي (Breakthrough Therapy)، المميزة والفريدة، والنادر منحها لأي عقار أو دواء، وجعل من «سوفالدي» أسرع عقار في التاريخ على الإطلاق، على صعيد الفترة الزمنية التي احتاجها للوصول من مرحلة الأبحاث المختبرية إلى مرحلة الطرح في الأسواق. ولكن على رغم أهمية هذا التطور العلمي، إلا أنه سرعان ما اصطدم بواقع -أو ربما بالوجه القبيح- لقطاع صناعة الأدوية والعقاقير الطبية، حيث سعّرت الشركة المنتجة للعقار شوط أو فترة العلاج اللازمة بـ«السوفالدي» بحوالي 94 ألف دولار (330 ألف درهم).
وهذا السعر، وضع «سوفالدي» خارج القوة الشرائية للغالبية العظمى من المرضى، ولنظم الرعاية الصحية، في الدول الفقيرة والغنية على حد سواء. ولكن أمام ضغوط سياسية هائلة، وضغوط اقتصادية من قبل شركات تصنيع الأدوية الجنسية، وقانونية من قبل المُشرّعين وواضعي السياسات، بالإضافة للضغوط الشعبية بقيادة منظمات المجتمع المدني، رضخت الشركة لإجراء تخفيضات شديدة على السعر، بلغت حسب بعض التقديرات أكثر من 45 في المئة في المتوسط، وأحياناً كثيرة ما يباع «السوفالدي» بنزر بسيط من سعره الأولي. فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر فترة العلاج في اليابان مجرد 300 دولار فقط لا غير، تتحملها الحكومة بالكامل تقريباً. إلا أن مصر تعتبر قصة النجاح الأبرز في هذا المجال، حيث انخفضت تكلفة فترة العلاج من 900 دولار عام 2014 إلى مجرد 200 دولار عام 2016، وهو ربما السعر الأدنى على الإطلاق لـ«السوفالدي» في أية دولة في العالم.
ونتج عن هذا الاتجاه الانخفاضي في سعر واحد من أهم الأدوية في عالم الطب الحديث، توفير العلاج لأكثر من مليون شخص حول العالم حتى الآن، وتحقيق الشفاء للغالبية العظمى منهم. ولكن، لا زال الطريق طويلاً على صعيد تخليص العالم من هذا المرض اللعين، في ظل التقديرات التي تشير إلى أن 80 مليون شخص حول العالم مصابون حالياً بفيروس التهاب الكبد (C). ولذا، فعلى رغم ضخامة عدد من تم علاجهم في غضون أقل من ثلاث سنوات –مليون مريض- إلا أن هذا العدد يتضاءل مقارنة بعدد من لا زالوا في حاجة للعلاج، أي بالتحديد الـ79 مليون مريض الباقين.